أ.د. حسني نصر
لا أدري هل نضحك أم نبكي من تعبير جوش ايرنست المتحدث باسم البيت الأبيض نهاية الأسبوع الفائت عن قلق الإدارة الامريكية من إعلان الحكومة الإسرائيلية عن مشاريع استيطانية جديدة في الضفة الغربية المحتلة. فالواقع أن هذا القلق الأمريكي يثير الضحك مثلما يثير البكاء على حال الضفة وفلسطين والعرب عموما.
القلق المرضي المزمن الذي شعر به البيت الأبيض والمشابه لقلق بان كي مون السكرتير العام للأمم المتحدة من كل كارثة وأزمة دولية، يدعو للسخرية، خاصة وأنه دائم التكرار، ربما بنفس النص في كل المرات التي تتوحش فيها إسرائيل قتلا وأسرا وتشريدا للفلسطينيين، وهو ما يجعل شروعها في بناء مستوطنات جديدة في الأراضي الفلسطينية المحتلة يبدو أمرا هينا لم يكن يستحق كل هذا القلق الأمريكي، الذي سيكون بالتأكيد دون أي نتيجة على الأرض سوى تسجيل الموقف وإرضاء الطرف الضعيف بكلمات معادة لا تسمن ولا تغني من جوع.
المضحك في الأمر أيضا أن المتحدث باسم البيت الأبيض استخدم في المؤتمر الصحفي الذي عقده في واشنطن عدة مصطلحات تجاوزها الزمن، ولم يعد لها معني، ودخلت قاموس أوهام الصراع العربي الإسرائيلي. أول هذه المصطلحات هو مصطلح "حل الدولتين"، وهو الوهم الذي ما زالت تروج له الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والدول العربية، وتتمسك به السلطة الفلسطينية باعتبار أنها لم تعد تملك خيارات أخرى غيره. تستخدم الولايات المتحدة في بياناتها القلقة هذا أسطورة "حل الدولتين" رغم قناعتها وقناعة الجميع في الشرق والغرب انه لن يري النور، ببساطة لأن إسرائيل لا تريده وليست مضطرة لقبوله. ترى أمريكا أن توسيع الاستيطان في الضفة الغربية يشكل تهديدا متناميا لحل الدولتين، وهي تدرك جيدا انه لم يعد حلا، ولو كان حلا بحق لتم تنفيذه منذ سنوات طويلة، إذ يعود تاريخه إلى العام 1967 عندما ورد لأول مرة بعد حرب يونيو وفي قرار مجلس الأمن الشهير 242 ثم عاد للظهور في اتفاقية أوسلو في العام 1993.
المصطلح الثاني الذي استخدمه متحدث البيت الأبيض هو "مواقع استيطانية غير قانونية" و"مستوطنات غير مصرح بها". ويحتاج هذا التعبير إلى ما هو أكثر من الضحك، لان جميع المستوطنات التي أنشأتها إسرائيل منذ احتلال الضفة الغربية في 1967 كانت غير قانونية وغير مصرح بها، ولم يؤثر ذلك لا على بناء المستوطنات او على استمرارها او حتى على بناء المزيد منها. والاهم هنا هل يعنى إسرائيل كثيرا أن تكون مستوطناتها في الضفة قانونية او غير قانونية؟ إسرائيل تفعل ما يحلو لها ولا يشغلها القانون لأن لها قانونها الخاص الذي لا يستطيع أحد في العالم بمن فيهم الولايات المتحدة أن تقترب منه. يمكن أن تنتقد بناء المستوطنات وتقول إنها غير قانونية ولكن ليس أكثر من ذلك. ولعل هذا ما دفع جوش ايرنست عندما سأله أحد الصحفيين حول ما إذا ما كانت واشنطن ستتخذ إجراء بخصوص مواصلة إسرائيل بناء مستوطنات أم ستكتفي بالإعراب عن قلقها، إلى القول بانه لا يعتقد أن بوسع الولايات المتحدة اتخاذ إجراءات ضد إسرائيل وطرحها بشكل علني، وتأكيده أن بلاده ستتحاور مع الإسرائيليين حول هذا الأمر بشكل سري. ومن واقع الخبرات السابقة في مثل هذه المواقف نستطيع أن نؤكد أن هذا الحوار الأمريكي الإسرائيلي سيكون لهدف أخر مختلف تماما ولن يخرج عن تقديم تطمينات للإسرائيليين بان واشنطن ستقف ضد أي تحرك قد يفكر الفلسطينيون او العرب فيه لمواجهة الموجة الاستيطانية الجديدة في مجلس الأمن الدولي. فالفيتو الأمريكي سيكون جاهزا بالتأكيد لمنع صدور أي قرار قد يدين إسرائيل او يطالبها بوقف الأنشطة الاستيطانية الجديدة في الضفة الغربية.
من المتحدث باسم البيت الأبيض إلى المتحدث باسم الرئاسة الفلسطينية لا تجد فرقا كبيرا. فالاثنان يتكلمان نفس اللغة ويستخدمان نفس العبارات والشعارات والمصطلحات البالية، وهما يعلمان أنها للاستهلاك المحلي والإقليمي ولن تؤثر في القرار الإسرائيلي، وان الأمر بات واقعا لا يستطيع أحد وقفه. يحلم المتحدث الفلسطيني نبيل أبو ردينة بالتوجه إلى مجلس الأمن الدولي، لاستصدار قرار بإلزام إسرائيل، بوقف النشاطات الاستيطانية المدانة دوليا. ويعيد تذكيرنا-مع إننا نعلم ذلك-بان الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي المحتلة غير شرعي، ومخالف لكل القوانين والأعراف الدولية، ويستدعي تحركا دوليا لوقفه. أما اهم ما ورد في تصريحات أبو ردينة فهي البشري العظيمة التي حملها لنا بان القيادة الفلسطينية سوف تنسق مع الجامعة العربية باعتبارها قوة عظمي قادرة ومؤثرة في العالم، ومع المجموعة الوزارية العربية التي تشهد لها المحافل الدولية. هذا التنسيق لن يكون بالطبع لقطع العلاقات مع إسرائيل او سحب السفراء العرب من تل أبيب او طرد سفراء إسرائيل من العواصم العربية، فالأمر لا يستدعي كل ذلك. التنسيق الذي سيتم مع الجامعة العربية والمجموعة الوزارية العربية سيكون فقط لإجراء اتصالات دولية، تستهدف الإسراع في عقد جلسة لمجلس الأمن الدولي، لاستصدار قرار بوقف الاستيطان. المضحك هنا أن أبو ردينة يعلم أن مجلس الأمن لن يصدر مثل هذا القرار، هذا إذا نجحت الجهود العربية التي بشر بها في طرح الموضوع على المجلس من الأساس. ومع ذلك فان أبو ردينة يكرر نفس ما قاله وقاله غيره من قبله في كل واقعة استيطان إسرائيلي جديد في الضفة.
لقد أصبح الأمر أشبه بدائرة مفرغة وحلقة معادة ومكررة، تبدأ بإعلان إسرائيل بناء وحدات استيطانية جديدة في الأراضي المحتلة، وفور الإعلان يخرج المتحدث باسم البيت الأبيض للتعبير عن القلق، ثم يخرج الفلسطينيون ليتحدثوا عن تنسيق مع الجامعة العربية لطرح الأمر على مجلس الأمن، ثم يجتمع مجلس الأمن، وتستخدم الولايات المتحدة وربما دول أخرى معها الفيتو لمنع إدانة إسرائيل، ويدخل الموضوع برمته إلى ثلاجة مجلس الأمن، وبعدها بشهور تبدأ الدورة من جديد بنفس السيناريو ونفس المخرج وربما بنفس الممثلين والمتفرجين.
اكاديمي في جامعة السلطان قابوس