مونتريال-ا ف ب
تقدمت عاصمة مقاطعة كيبيك الكندية مونتريال خمس مرات لاستضافة الألعاب الأولمبية الصيفية لتحصل على هذا الشرف وتتفوق على موسكو ولوس انجليس، وتميزت بملفها المتكامل من الآلف إلى الياء فنالت 41 صوتاً مقابل 28 لموسكو.
لكن طموحات بناء مرافق تؤرخ لحقبة جديدة في تاريخ المنشآت الأولمبية شكل كابوسا للمنظمين في ما بعد، إذ أدت إضرابات العمال المتتالية وموجات البرد القارس التي أوصلت الحرارة إلى درجة 40 تحت الصفر، إلى تأخير كبير في إنجاز المشاريع وإتمام الورش في مواعيدها. وتفاقم الوضع المطالب العمالية الاجتماعية، ما أوقع حكومة المقاطعة في ورطة كبيرة، ولما انتهى كل شيء كشفت الحسابات والتكاليف زيادة بنسبة 427 في المئة خلال ثلاثة أعوام.
أنفق نصف مليار دولار لبناء الأستاذ الرئيس الذي صممه الفرنسي روجيه تاليبير ويتسع لـ72 ألف متفرج، وارتفعت تكاليف إقامة القرية الأولمبية المؤلفة من 900 شقة التي لم تفصل بين الرجال والسيدات من 50 إلى 80 مليون دولار.
صحيح أن الألعاب سجلت أرباحاً من العائدات والمداخيل المباشرة وغير المباشرة بلغت 260 مليون دولار، لكن نفقات البناء وتبعاتها الأخرى أوقعت الحكومة في ديون تطلب تسديدها سنين طويلة، على رغم ما استفادت منه المدينة والمقاطعة عموماً من بنية أساسية متكاملة ومترو الأنفاق. فطرح الأمر مجدداً عما ستقوم عليه الألعاب من عملقة في التنظيم والاستعداد لم تعد في مقدور الجميع. وهذا طبعاً بعيد من الروح الأولمبية الحقيقية وغايتها السامية.
وفي موازاة الابتكار في البناء والتصميم وتوفير سبل الراحة في المرافق والملاعب، إذ أن إفراغ الأستاذ الرئيس مثلا يتم في 7 دقائق، وإقامة أحواض سباحة عصرية تحت المدرجات، وتزويد حوض الغطس بمصاعد كهربائية توفيراً لطاقة المشاركين وجهدهم، واعتبار مضمار الدراجات «مساحة ضوء» مشعة، فإن الفاتورة النهائية جاءت مرتفعة أكثر مما تصوره غلاة المتشائمين واللافت أن اللمسات الأخيرة أنهيت قبل دقائق من استخدام غالبية المرافق، ففوجئ المتفرجون وحتى المشاركون بلافتة تنبهم من الاقتراب من الجدران الخشبية خشية أن «تلطخ» ثيابهم بالطلاء «الطازج» وأزكت رائحته أنوفهم!!
وأرخت العملية الفدائية في ميونيخ 1972، وبعدها عملية عنتيبي في أوغندا بظلالهما على دورة مونتريال، إذ استنفر 16 ألف عنصر أمن أي أكثر من نصف عدد المشاركين في الألعاب التي افتتحت بحضور ملكة بريطانيا اليزابيت الثانية، وهي وقفت ساعة و22 دقيقة في المنصة الرسمية تستعرض المشاركين وقلبها يخفق لابنتها الأميرة آن عضو المنتخب الإنجليزي للفروسية.
وتجسيداً للتعايش بين الشعب الكندي، أوقد الشعلة الكندي الفرنسي ستيفان بريفونتان (16 عاماً) والكندية الإنكليزية ساندرا هندرسون (15 عاماً). وهي نقلت إلى الأرض الكندية للمرة الأولى كعلامة إلكترونية بواسطة الأقمار الاصطناعية.
أقيمت ألعاب مونتريال من 27 يوليو إلى 1 أغسطس بمشاركة 6084 رياضياً بينهم 1260 لاعبة من 92 بلداً تنافسوا في 198 مسابقة ضمن 21 لعبة هي: ألعاب القوى والتجذيف وكرة السلة والملاكمة والكانوي-كاياك والدراجات والفروسية وكرة القدم والجمباز ورفع الأثقال وكرة اليد والهوكي على العشب والجودو والمصارعة والسباحة والخماسي الحديث والكرة الطائرة والرماية والقوس والسهم واليخوت.
وتبارت النساء للمرة الأولى في التجذيف فحصدت الألمانيات الشرقيات خمسة ألقاب وبلغاريا لقبين، وفي كرة السلة وكرة اليد حيث أحرزت السوفياتيات ذهبيتيها. وكانت تسجلت 116 دولة لخوض الألعاب، لكن 22 دولة أفريقية قاطعت في اللحظة الأخيرة احتجاجا على جولة لمنتخب نيوزيلاندا للركبي في جنوب أفريقيا «المعزولة» لانتهاجها سياسة التمييز العنصري، ومن دون أن تعاقب نيوزيلاندا.
وكانت تلك صدمة لرئيس اللجنة الأولمبية الدولية اللورد كيلانين وخسرت الألعاب نجوما أمثال الأوجندي اكي بوا والكيني مايك بويت والتونسي محمد القمودي والتنزاني فيلبرت بايي. واحتجت الصين التي أهتمت للمشاركة بعد غياب طويل، لاعتماد تايوان. وفي النهاية لم تحضر الدولتان.
أما المحصلة الأخيرة للميداليات، فثبتت القوة السوفياتية في الصدارة وبلغ رصيدها 125 ميدالية بينها 49 ذهبية في مقابل 90 لألمانيا الشرقية (40 ذهبية)، و94 للولايات المتحدة (34).
وحلت ألمانيا الغربية رابعة برصيد 39 ميدالية (10) واليابان خامسة 25 (9).
10 على 10
ولعل أسعد لحظات ألعاب مونتريال كانت منافسات الجمباز التي حملت «روائع» السوفياتية نيللي كيم في الحركات الأرضية، والإثارة المتناهية مع الرومانية الصغيرة ناديا كومانتشي التي قلبت المقاييس كلها، وباتت أول من تحصل على العلامة الكاملة (10 على 10) على أكثر من جهاز. فكانت الاستثناء الذي «استحق» هذه الدرجة 7 مرات متتالية، وأنهت المسابقة بحصولها على ثلاث ذهبيات وفضية وبرونزية، ممهدة الطريق أمام جيل جديد من «الجمبازيات «الرومانيات تحديدا، وحلقت بشهرتها بسرعة قياسية.
وقصد العداء السوفياتي فاليري بورزوف، بطل ثنائية 100 و200 م في ميونيخ، مونتريال طامحاً إلى انتصار جديد بعد تفوقه الأوروبي تحديداً، لكنه اكتفى بالمركز الثالث في سباق 100 م الذي عاد لقبه إلى الترنييدادي اشلي كراوفورد (6ر10 ث).
وكان الفنلندي لاس فيرين عظيما في سباقي 5 ألاف و10 ألاف م على غرار ما فعله في ميونيخ قبل أربعة أعوام. ولقي في السباق الثاني منافسة من البرتغالي الصاعد كارلوس لوبيز، قبل أن يتسيد المضمار ويفوز مسجلاً 38 .24 .13 د. وأثيرت حينها قضية نقل الدماء التي اعتبرت بمثابة منشط محفز، وان فيرين من أبطالها، علما أن 1500 لاعبة ولاعب خضعوا لفحوصات الكشف عن المنشطات.
لكن مونتريال 1976 كانت مسرح الصناعة الألمانية الشرقية للأبطال والبطلات، إذ أن 14 انتقلوا لاحقا إلى الطرف الغربي وكشفوا فضائح نظام المنشطات، وأكدت السباحة ريناتا فوجل «كنا حقلا للاختبارات».
بيد أن السباحات الشرقيات أحرزن في حينه تسعة من عشرة ألقاب، وأبرزهن كورنيليا انيدر بطلة سباقات 100 و 200م حرة و100 فراشة والبدل 4 مرات 100م متنوعة.
وفي موازاة السيطرة الألمانية الشرقية على سباحة النساء، تميز الأمريكيون عند الرجال خصوصاً جيم مونتجومري أول من كسر حاجز 50 ثانية في سباق 100م حرة (99 .49 ث)، وهو كشف أنه عند بداية استعداداته للألعاب قبل عامين من موعدها «أجريت حسابات دقيقة لما يمكن الوصول إليه، وأدركت أن ضماني الفوز يتطلب أن أحقق دون ال50 ثانية، وبناء عليه وضعت برنامج تدريباتي».
كما تفوق مواطنه براين جوديل في سباق 400 م حرة وسباقات التتابع، وغرد البريطاني ديفيد ويلكي خارج السرب وسجل رقماً عالمياً جديداً في 200 م صدرا (11 .15 .2 د). وأصبح «الشرقي» عداء الموانع فالدمار شيبرنسكي أول ألماني يحرز سباق الماراتون مسجلاً رقماً قياسياً (00 .55 .09.2 ساعة)، وتمكن من المحافظة على اللقب بعد أربعة أعوام في موسكو.
ومن الإنجازات أيضاً، فوز البولندي تاديوس سلومارسكي في القفز بالزانة (50. 5 م) ومواطنه باسيك فزسولا في الوثب العالي (25 .2)، واكتفى المرشح الأول الأمريكي دوايت ستونز بالمركز الثالث (21 .2 م). وأجريت المسابقة تحت زخات المطر.
وحافظ المجري ميكلوس نيميت على إرث عائلي في الألعاب الأولمبية من خلال إحرازه ذهبية رمي الرمح وتسجيله رقماً عالمياً جديداً مقداره 58 .94 م، كونه نجل أمري نيميت بطل مسابقة رمي المطرقة في دورة لندن 1948.
ونال النيوزيلندي جون وولكر الغفران على مغامراته كلها بعدما استحق الفوز في سباق 1500 م (17 .39 .3 د).
وتعرف العالم على «الحصان» الكوبي ألبرتو خوانتورينا بطل سباقي 400 م (26 .44 ث رقم عالمي)، و800 م (50.43 .1 د).
وقصد الفرنسي غي دروت مونتريال «لأكون بطلاً أولمبيا، كنت أدرك أنها فرصتي الأخيرة، فبذلت مستطاعي»، وحققت إنجازا هو الأول من نوعه، تمثل في كسر احتكار الأمريكين لحصد ذهب سباق 110 أمتار حواجز.
فاز درو مسجلاً 30 .13 ث، متقدماً على الكوبي راميريز كاساناس والأمريكي ويلي دايفنبورت بطل دورة مكسيكو 1968.
قبضة مزيفة
وكان السوفياتي بوريس اونيتشينكو مصدر أكبر فضيحة في الألعاب، علما أنه يحمل ذهبية دورة ميونيخ للفردي في المبارزة ويعتبر ابرز المرشحين للمحافظة على اللقب الأولمبي.
بيد أن اونيتشينكو (39 عاما)، الأوكراني الأصل، أقصي لأن قبضة سلاحه كانت مزيفة إذ أضاف إليها جهازا مكهربا يسمح له بالتحكم في جهاز تسجيل النقاط في مصلحته متى أراد.
واحتج منافسون كثر لاونيتشينكو على إنارة جهاز تسجيل النقاط من دون أن يمسهم المبارز السوفياتي، فقرر الحكام فحص سلاحه واكتشفوا الجهاز الإضافي، واستبعدوا «البطل الأولمبي» ومنتخب بلاده. وأوقف لاحقا مدى الحياة من قبل اللجنة الأولمبية الدولية، وفرضت عليه عقوبات شديدة.