نيس وكرادة.. والانفصام في الإنسانية

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ٢٠/يوليو/٢٠١٦ ٠٠:٠٦ ص

لميس ضيف

في كرادة العراقية، وبعيد الإفطار في شهر رمضان الذي يُعظم المسلمون حرمته، وعلى أعتاب العيد الذي قدر له أن يكون سعيداً، اهتزت بغداد على أكثر الهجمات غدرا ودموية منذ العام 2003.

شاحنة محملة بالموت والمتفجرات لم تستهدف نظاماً سياسيا ولا حزباً ولا حتى منشأة دينية بل ولت وجهها للحي التجاري، حيث يتأبط الآباء أبناءهم ليضعوا لهم عربون فرحة العيد في كيس، وحيث تذهب الفتيات مع أمهاتهن بأوردة تضخ حماسا وبهجة. اختار الجناة وقت تبضع الناس لكسوة العيد ليلبسوهم أكفاناً بعد قتلهم بأقبح طريقة يمكن أن يموت بها إنسان: الحرق أحياء في مشهد وحشي تأنف المخيلة حبكه أو استحضاره.

مات منهم من مات: مسلمين ومسيحيين، سنة وشيعة. وصفت جثثهم التي اختلطت بعد تشوهها أمام العالم، فأغمض عينا وفتح أخرى، ولم يغرق الإعلام ببيانات الإدانة، ولم يصدح في الأرض صدى تهديد الجناة. فالأب يُنكر ابن السفاح، ولكنه يفتح بابا خلفيا للإنفاق عليه. وتنظيم الدولة ما هو إلا الابن غير الشرعي لسياساتهم وفكرهم!
بعدها بأسابيع معدودة صرخت فرنسا صرخة مدوية مشدوهة من جريمة أخرى لا تقل دناءة وغدرا. جمعٌ بهيج من البشر تجمع وتهيأ للاحتفال بمناسبة وطنية، فطاف عليه سفاح بائس بحبر من دم وكتب شهادة وفاة 88 بريئا، وتمتع بسماع صوت عظامهم وهي تسحق تحت عجلات عربته، ليدخل البلاد التي آوته، وأحسنت إليه، وأطعمته، وتبنته ونسبته لها، في حداد لم تخرج منه إلى اليوم!
لا خلاف على وحشية الجريمتين. ولكن، هل دم الفرنسيين أحمر.. ودم ضحايا كرادة ماء؟
كيف نفسر تسابق الهيئات الدينية والأنظمة والأحزاب السياسية، بل والشخصيات المرموقة لتعزية ضحايا الجريمة الهمجية في نيس في الوقت الذي صمتت فيه الجهات ذاتها صمت القبور أمام فجيعة كرادة!
صفحات كاملة أفردتها الصحف العربية لنشر البيانات والأخبار والتحليلات، فيما اكتفى هؤلاء بخبر خجول عن تفجير كرادة «نقلا عن وكلات أنباء عالمية» ولم يتجشم أغلبهم عناء بث لقاءات مع ذوي الضحايا أو تداعيات الحدث الذي زلزل بلداً شقيقاً منكوباً، منذ سنوات، لم يفكر أحد أشقائه بمساعدته بل على العكس، كثير منهم يلعب دوراً خبيثا في تعميق معاناته!
فإلى ماذا نرد ازدواجية الموقف يا ترى؟ هل هي عقدة الدونية المركبة التي يُعاني منها العرب؟
فالعربي وإن ملك ما ملك ووصل إلى حيث ما وصل يبقى أسيراً في قرارة نفسه لإحساس النقص، فيجنح للعدوانية في محاولة للتعويض، وهو إحساس مرّ يؤدي – فيما يؤدي إليه – لبلاهة في التصرف، واختلال في قياس وزنة الأمور!
أم هي محاولة للتبرؤ من ابن السفاح وإبعاد زنجير الإدانة عنهم؟
أم هو انفصام في الإنسانية.. ذاك المرض الذي يجزئ الحقائق.. ويتعاطف مع الضحايا بناء على انتماءاتهم وهويتهم الاثنية والعرقية؟
في كل الأحوال فإن ما حدث «معيب» ومعيب جداً.. مع تعازينا لضحايا الطرفين، فكلاهما فريسة ذات البعبع، ومن رباه وموله بالطبع.