حكاية جزيرتنا تودع بريطانيا

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ١٢/يوليو/٢٠١٦ ٠٦:٥١ ص

سيباستيان مالابي

ربما يكون الشيء الأكثر رعبا في استفتاء بريطانيا حول عضوية الاتحاد الأوروبي هي الجوانب التي يكشف عنها في الثقافة السياسية المتمثلة في رفض تحمل المسؤولية وازدراء الحقيقة والالتفات المتعمد عن معاناة الإنسان في البلدان الأخرى. كانت بريطانيا في وقت من الأوقات واحدة من الدول التي قدمت نموذجا للبراجماتية المستنيرة، ولكن بعد عودتي للعيش هنا بعد ما يقرب من عقدين من الزمن في الولايات المتحدة، أجد نفسي وجها وجها أمام نموذج من الاضمحلال السياسي الذي يؤلم أصدقائي في واشنطن.

وبطبيعة الحال فبريطانيا تقف دائما بمعزل عن أوروبا، وعبر الأجيال وقف الخطباء يرددون كلمات بطل مسرحية شكسبير «ريتشارد الثاني» الذي راح يحتفي بالجزيرة المنعزلة ويصفها بالحجر الثمين الذي يقبع في بحر من الفضة وأنها القطعة المباركة.

وعندما دعا المثقف مايكل جوف الذي يقود حملة معارضة الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، إلى إتاحة الفرصة للأطفال للاستماع إلى « حكاية جزيرتنا»، فإنه يذود عن حياض موروثات غنية وتقاليد راسخة. ولعدة قرون كانت بريطانيا تقف على حافة أوروبا أشبه باليابان: جزيرة على حافة كتلة قارية كبيرة تفتخر بعزلتها.
بيد أن بريطانيا لديها تقاليد مختلفة كما يقول بريندان سيمس مؤرخ كامبريدج في كتابه الجيد «أوروبا في بريطانيا». ففي العام 1871، قال رئيس الوزراء وليام جلادستون: ليس لنا الحق في الانكفاء على أنفسنا في عزلة وأنانية مطلقة، وإننا نخسر قيمتنا الحقيقية إذا ما تبرأنا من الالتزامات التي تنشأ عن هذه العلاقات مع آخرين أكثر عرضة للمعاناة منا.
وأجد في ذكرياتي الأولى ملامح انتصار سياسة الانفتاح على الآخرين أمام دعاة منطق ضيق الأفق، فعندما كان عمري 11 عاما، وذلك في العام 1975، صوت البريطانيون بأغلبية 2-1 لصالح الانضمام إلى أوروبا، ليعلو صوت رسالة تقول إن على بريطانيا واجبا لبناء قارة مزدهرة وأن تنفض عن كاهلها ذكرى حربين عالميتين. وفي مقالة افتتاحية للندن تايمز التي أخذت موقفا متشككا في كثير من الأحيان تجاه الاتحاد الأوروبي، حملت عنوانا لجون كينيدي يقول «هناك الكثير مما يمكن أن تقدمه أوروبا لنا بينما لا يسعنا سوى تقديم النذر اليسير».
ثم جاء العام 1992 ليحمل انتخاب المحافظين تأكيدا على المفاخرة بأن «بريطانيا استعادت مكانها الصحيح في العالم، بريطانيا في قلب أوروبا» وبعد مرور خمس سنوات أعلنها توني بلير زعيم حزب العمل المؤيد لأوروبا «إما أن نكون دولة قائدة للأمم أو لا نكون شيئا» وكانت تلك هي روح الاندماج الأممي المثالي الذي قاد بريطانيا إلى البيت الأوروبي، كما كانت هذه الأممية نفسها هي التي جعلت بريطانيا حليف الولايات المتحدة الأكثر اعتمادا عليه، أمة تؤمن بقيادة الغرب الحر، حتى وإن افتقدت لأعداد السكان والثروة التي تلزم للقيام بدور أكبر من مجرد الدعم.
ولكن أين نحن الآن؟ إن الحملة الداعية إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تكاد تخلو تقريبا من المثالية الأممية، ناهيك عن الحد الأدنى من اللياقة. كما أن هذه الحملة التي تدين انفتاح بريطانيا أمام المهاجرين الأوروبيين لم تأخذ للحظة بعين الاعتبار أن إعطاء البولنديين أو الرومانيين فرصة لمستويات المعيشة البريطانية قد يكون مرغوبا فيه بل من الشهامة والنبل. ويزعم مؤيدو انفصال بريطانيا أن الأعداد الغفيرة من القادمين من الخارج يمثلون عبئا على عاتق الخدمات الصحية الوطنية، بينما الحقيقة هي أن المهاجرين يدفعون من الضرائب أكثر مما يحصلون عليه من الفوائد، وهو ما يزيد النظام الصحي الحكومي قوة.
وإذا كان الأطباء البريطانيون يعملون أكثر من طاقتهم إلى حد مفرط فهذا خطأ من الحكومة البريطانية، ومن الجبن إلقاء اللوم في هذه المشكلة على الأجانب.
وعلى الجانب الآخر فإن حملة تأييد بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي لم تظهر نفسها في ثوب المجد والفخار، وبدلا من أن تظهر العضوية الأوروبية أنها شيء جدير بالافتخار به، تحصر نفسها في الدفاع عن الوضع الراهن بطريقة تدعو للأسى. فهي تحذر من أن ترك الاتحاد الأوروبي سيعني صادرات بريطانية أقل للقارة، ومنح أوروبية أقل لبريطانيا وتراجع أسعار المنازل في لندن. بل إن رئيس الوزراء البريــــطاني ديفــــــيد كاميرون يقود حملة وهو يقف أمام لافتة تعلن أن متوسط دخل الأسرة البريطانية سيكون أسوأ حالا، بما يصل إلى 4300 جنيه استرليني سنويا، في عبارة تفتقد إلى الكثير من الدقة.
وقبل بضعة أيام، عرض رئيس الوزراء العمالي السابق جوردون براون لمحة عما يمكن أن تصبح عليه بريطانيا، فأشاد بأوروبا وأنها «لا تخوض سوى معركة وحيدة هي معركة الأفكار، ونقاتل مع الحجج وليس مع السلاح». وناشد براون البريطانيين ألا ينساقوا وراء دعوات الانفصال وأن يتمسكوا بالدور القيادي، وقال ما هي الرسالة التي نرسلها إلى بقية العالم لو أننا نحن الشعب البريطاني الأكثر تعقلا ننفصل على أقرب جيراننا؟ وربما يكون أفضل خبر في الأيام الأخيرة بث وتناقل الفيديو الخاص ببراون.