ضرورةُ الشَّكّ

مقالات رأي و تحليلات السبت ٠٩/يوليو/٢٠١٦ ٢٢:٤٩ م
ضرورةُ الشَّكّ

زاهي وهبي

يقف الناس صفوفاً طويلةً تضم المئات لساعات طوال طلباً لتذكرة دخول الى متحف بابلو بيكاسو (الرسَّام الإسباني الشهير) في برشلونة. كذلك يفعلون أمام متحف أنطوني غاودي (المهندس المعماري الأشهر في كاتالونيا) وسواه من متاحف وكنائس وقصور قديمة ومسارح تُقدِّم عروضاً من رقص الفلامنكو أو سواه من فنون ما كانت الحياة لِتُحتمَل بدونها. المشهد نفسه يتكرر في العواصم والمدن الأوروبية المختلفة، وفي كثير من عواصم ومدن الدنيا، لكن تبقى أوروبا مهما بلغت أزماتها ومشاكلها ومهما أُطلِقَ عليها من ألقاب مثل "القارة العجوز" وغيره، تبقى الفسحة الأكثر اخضراراً بالآداب والفنون، اذ على الرغم من التراجع الثقافي الذي يشهده العالم أجمع وشيوع نوع من "الأمركة" في نمط العيش الاستهلاكي والذوق العام المائل الى ثقافة "الفاست فوود"، لا تزال الدول الأوروبية تدعم المسارح والمراكز والمؤسسات الثقافية، وتخصص لها الميزانيات والامكانيات المالية الضرورية للاستمرار على قيد الانتاج، ولمقاومة السطحية التي تتعاظم بفعل عولمة هي في كثير من وجوهها "أمركة" مُضمَرة نظراً لمحورية الدور الأميركي اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، ولمقدرة الآلة الأميركية الإعلامية والدعائية الهائلة على التأثير في الناس في شتى بقاع الأرض.
الإقبال على المتاحف والمسارح والأمسيات الموسيقية ومعارض الكتب وسواها ليس ترفاً أو نوعاً من الكماليات التي يمكن الاستغناء عنها لأجل أمور أخرى أكثر الحاحاً. المسائل متداخلة متشابكة مترابطة، لا يمكننا المفاضلة بين الرغيف والكتاب، كلاهما ضرورة لا يمكن للحياة أن تستمر بدونهما، لا يعيش الانسان ليأكل، بل يأكل لِيعيش، وشتّان بين الأمرين. بلا كتاب، يعود الانسان مجرد حيوان ناطق، بالكتاب يرتقي ويكسب أسبقيته على بقية الكائنات. معظم الذين نلتقيهم في أوروبا منتظرين على أبواب المسارح والمتاحف ليسوا من الميسورين، بل من أولئك السياح الذين يحملون حقائبهم على ظهورهم، يسافرون بالقطار أو في رحلات جوية منخفضة الكلفة، يرتادون فنادق من فئة النجوم الثلاث وأدنى، أو من طلاب المدارس والجامعات الذين يشتغلون صيفاً لتأمين لقمة عيشهم خلال أشهر الدراسة. نسوق هذه الإشارة لنقول إن إيلاء الأدب والفن اهتماماً وتخصيص حيّز له ضمن يومياتنا ومشاغلنا الكثيرة لا علاقة له بالإمكانيات المادية. فلا يتذرعنَّ أحدٌ بحاجة البطون للتخلي عن حاجة العقول، كلاهما مترابط ترابطاً عضوياً، كلما تغذّى العقل أكثر استطاع الانسان تحسين ظروف عيشه أكثر.
ماذا ينفع الكلام عن الفن والأدب وبلادنا غارقة في الحروب والأزمات المستعصية؟ ومَن لم تصله نيران الفتن الطائفية والمذهبية بعد خائف من الغد متوجس مما يخبئه المستقبل(!) لهذه الأسباب بالذات نكتب عن ضرورة الفن، لأن بلادنا تعيش كل هذه الشرور والمِحَن ندعو دوماً الى جعل المعرفة والثقافة نافذة خلاص، كيف؟ وهل يستطيع المحزون المكروب تفكيراً بما ندعو اليه؟ لا بد أن يستفيق العقل العربي، لا بد للإنسان العربي الذي يعقد المقارنات المؤلمة كلما زار بلداً متحضراً وتعرَّف الى الشعوب وأنماط عيشها وما توفره لها حكوماتها من سبل حياة كريمة، لا بد له من إعمال عقله والانتصار لإرادة الحياة ولمنافذ الوعي والتطور، والبحث عن سبل خلاص من الجهل والتطرف ومن "الثقافة" الماضوية التي تعيدنا الى كهوف الظلام والعصر الحجري. هذا الخلاص لا يتحقق بغير إيلاء الآداب والفنون المكانة التي تستحقها بوصفها آداة تنوير وتطوير. ها نحن نختبر ما فعله بنّا التثوير بلا تنوير، وكيف حلَّ التكفير مكان التفكير، ما جعل بلادنا ساحات وغى أين منها داحس والغبراء، وشرَّع أبواب المستقبل على مزيد من التدهور والظلام.
لا يمكن للعقول المظلمة أن تنير الدروب أمام الناس، ولا للقوى الظلامية أن تحقق تطلعات الشعوب. التثوير بلا تنوير يغدو، كما هو حاصل، فوضى دموية غير خلّاقة يسود فيها الجهل والتخلف والتطرف ومنطق الالغاء والاقصاء، بينما تستطيع العقول المستنيرة أن تضيء لا دروب الحاضر فحسب بل دروب المستقبل أيضاً. لم يتقدم الغرب ويسود الا حين حرَّر العقل من شرنقة الخرافة، وقدَّم حرية الفرد على سطوة الجماعة، وأعلى منطق التفكير على جهالة التكفير، وَقَبِلَ أن تكون علاقة الانسان بربِّه مسألة خاصة وفردية لا تعني أحداً آخر غير المؤمن نفسه، واحترمَ الكائن الفرد كقيمة قائمة بذاتها ولذاتها. لِتحرير العقل سبيل واحد أوحد: المعرفة. لا يتحرر العقل بلا قراءة واطلاع وانفتاح على نتاج الانسانية الفكري والأدبي والثقافي والتفاعل معه والتحاور معه وقبوله بوصفه شريكاً ونظيراً في (وعلى) هذه المعمورة. بغير ذلك سنبقى وستبقى شعوبنا ومستقبلنا ضحية رؤوس محشوَّة بكل شي ما عدا العقل.
من أين نبدأ؟ سنظل نكرر: من البيت والمدرسة، تلك مسؤولية مَن نسميهم أولياء الأمر سواء كانوا في الأسرة أو في السلطة. مَن يتولى شؤون الناس عليه التفكير أولاً وأخيراً بالناس، وإلا ما معنى ولايته. أول ما يحتاج تغييراً وتبديلاً وإعادة صياغة هي مناهج التعليم المسؤولة عن كثير من تَحجُّر العقل العربي ويقينياته وتقوقعه وانغلاقه على نفسه. نحتاج مناهج تعليم عصرية حديثة مواكبة لما يستجد من علوم ومعارف، لكن قبل كل ذلك مُحرِّرة لعقل التلميذ، محفِّزة له على إطلاق سراح عقله، واستخدامه تفكيراً وبحثاً وطرحاً للأسئلة بلا خوف وبلا حرج. حتى الله جلَّ جلاله رضيَ أن يسأله موسى، السؤال ضروري، ان لم يكن شكَّاً فَلِكَي يطمئن القلب، وما مِن وصفة للتقدِّم أفضل مَن الشكّ، نافلٌ القول الشكّ طريق اليقين، لكننا نذهب أبعد من ذلك: الشكّ طريق المستقبل. كلُّ الإنجازات العظيمة للانسانية بدأت شكوكاً في رؤوس طليعيين رفضوا التسليم بما هو قائم ونظروا الى العالم من زاوية مختلفة، دفع الشكَّاكون ثمناً باهظاً في أغلب الأحيان، بعضهم كانت حياته هي الثمن، لكنهم عاشوا الى الأبد في وجدان الانسانية لأنهم نقلوها درجات على سُلَّمِ النور، نور العقل.
نحتاج الى زوايا جديدة نرى العالم من خلالها، الأدب والفن يساعدان على إيجاد تلك الزوايا، الشكّ يؤكدها(!)