زاهي وهبي
ليس المطلوب من الدراما التلفزيونية أن تتحول منبراً للوعظ والإرشاد، هي ليست خطبة جمعة ولا موعظة أحد. الدراما فن، والفن حمّال أوجه، أوجهه متعددة تعددَ الفنانين أنفسهم. كلُّ فنان سواء كان كاتباً، مخرجاً، ممثلاً، موسيقياً، مغنياً، رسّاماً...الخ، هو صاحب وجهة نظر ورؤى مختلفة عن الآخرين، الفنان لا يكون مبدعاً ولا صاحب اضافة إن لم يكن لديه رؤيا ورؤية مختلفتين عمّا هو سائد وتقليدي. لِذا حين نطالب صُنَّاع الدراما العربية بالاقتراب أكثر من الواقع العربي وقضاياه المُلحَّة والجوهرية، لا نقصد أن تغدو تلك الدراما نسخةً طبق الأصل عن الواقع، تكفينا نشرات الأخبار والبرامج السياسية وما فيها من عفن وعنف وتحريض على البغضاء والكراهية، بل ندعوهم الى تقديم أعمال ترتقي بشروطها الفنية والجمالية الى أعلى سوية ممكنة، وتطرح في الإطار عينه موضوعات وقضايا تهم الانسان العربي، بعيداً من الأسلوب الوعظي الارشادي أو النَّفَس الخطابي الشعاراتي المُنفِّر. موضوعات مأخوذة من صميم الواقع لكنها مشغولة بعناية وبصياغات درامية جميلة تجذب اهتمام المشاهد، تمتعه وتسلِّيه، وفي الوقت نفسه تثير لديه الإسئلة وعلامات الاستفهام، وتدفعه للبحث عن منافذ ضوء وكِوى خلاص من النفق المسطوم الذي دخلته أمتنا بفعل عوامل مركبة ومتراكمة منذ زمن الاستعمار الى ما بعده.
أكثيرٌ أن نرى أعمالاً تناقش مراحل مختلفة من تاريخنا بلا عنتريات جوفاء أو بكاء على الأطلال؟ أن نرى البطولات النبيلة والانتصارات العظيمة لأسلافنا، ولكن أن نرى أيضاً ما يناقش أسباب فشلنا في بناء الدولة الوطنية، دولة مع بعد الاستعمار؟ لماذا تحولت الأنظمة التي صعدت باسم الوطنية والقومية والحريّة والتحرر الى أنظمة قمعية مستبدة؟ كيف عَمَّ الفساد مفاصل الادارة العامة وسادت الرشاوى والزبائنية والمنافع المتبادَلة على حساب الكفاءة والمهنية والمواطنية الحقَّة؟، فيما شعوب الأرض تتجه الى مرحلة ما بعد الأمة الواحدة، الى نوع من الوحدة القارِّية كما هو حال الاتحاد الأوروبي على سبيل المثال؟ ماذا عن الطبقات المسحوقة والفقيرة وتلك التي تحت خط الفقر؟ ماذا عن الأمية والبطالة اللتين تشكلان بيئة جاذبة لأفكار التطرّف والغُلو والارهاب؟ كيف تم خطف الدين من قِبل التيارات المتطرفة والتكفيرية التي أفرغته من بعده الإيماني الروحي العميق وجعلته طقوساً للذبح والقتل الحرام باسم الله؟ ماذا عن التغريب والاستلاب للآخر الذي تقع أجيالنا الجديدة تحت سطوته فتأنف لغتها وثقافتها وتنسلخ عن هويتها ووجدانها الجمعي؟ لماذا عجز العرب عن اللحاق بركب الثورة الصناعية ويعجزون اليوم عن الانخراط في ثورة المعلوماتية والتكنولوجيا الذكية، واكتفوا بالاستثمار الريعي العقاري ولم يُحسِنوا الاستثمار الصناعي والتكنولوجي المُستدام؟ ماذا عن تخلف مناهج التعليم وغياب أي شكل من أشكال التنمية البشرية والاجتماعية؟ ماذا عن فشل الأحزاب والتيارات السياسية الموالية والمعارِضة المرتبط معظمها بدوائر خارجية؟ ماذا عن نكبة فلسطين التي عِوَض أن نجد لها علاجاً وحلولاً تنهي مأساة شعبها وتنقذه من براثن المحتل الاسرائيلي صار لدينا نكبات عراقية وسورية ويمنية وليبية وسودانية وصومالية، ومَن يدري ماذا بعد؟
طبعاً ليست الدراما التلفزيونية وحدها المُطالَبة بطرح تلك العناوين الكبرى التي تشغل أمتنا من محيطها الى خليجها، هي مسؤولية المجتمع بشرائحه ومستوياته كافة ومنها المستوى الابداعي. اذ ما معنى الفن وما قيمته ان لم يكن لأجل الانسان؟ كل الفنون العظيمة التي عبرت الزمان والمكان، وصارت ملكاً للانسانية جمعاء، هي تلك التي عالجت هموم الكائن البشري الفردية والجماعية على السواء. صحيح، يُضمِر الفن كثيراً من الفردية والنرجسية، لكن هذه مسائل تتعلق بالمبدع وكيفية ولادة نصّه الابداعي، أما مضامين النصّ فتغدو ملكاً لجميع متلقّيها، النصّ الذي لا يستطيع النفاذ الى وعي متلقيه وعقولهم وأفئدتهم الأفضل له البقاء حبيس الأدراج. حين نطرح تلك القضايا التي تشكِّل جوهر حياتنا ويتسبب عدم حلّها بمعظم حروبنا وأزماتنا، لا نطرحها من باب المزايدة أو "التنمير" على صُنَّاع الدراما العربية، ولا ندعوهم الى طرحها خبط عشواء، هكذا "من الباب للطاقة" كما يقول المثل، بل الى معالجتها بذكاء ووعي وتمريرها للمشاهدين عبر أعمال متنوعة من خلال قصص حب وتشويق وأعمال اجتماعية وتاريخية وكوميدية، لأن الفن ليس منشوراً سياسياً أو تربوياً، لكنه لا يستطيع الانفصال كلياً عن السياسة والاقتصاد والاجتماع بفروعه المتعددة. بلى، ثمة أعمال حملت بعضاً من تلك الهموم، وشكَّلت علامات فارقة ومضيئة في تاريخ الدراما العربية، الا أنها تبقى أعمالاً نادرة وقليلة قياساً بالكم الهائل من الغثاء والهراء الذي يُبَثُّ علينا وليس لَنَا.
هذه الأمور مطروحة على الدراما التلفزيونية، مثلما هي واجبة على كل انتاج إبداعي عربي، لا يمكن للابداع الاكتفاء بالتحليق عالياً بعيداً من آمال الناس وآلامهم. جلُّ الأعمال الفنية العظيمة وُلِدَت من رحم المآسي ومن أحشاء الحروب والمِحَن. لِنراجع ما أفرزته الحرب العالمية الثانية من أثر عميق في النص الابداعي شعراً ونثراً ومسرحاً وسينما وأعمالاً تشكيلية، لا يتذرعنَّ أحدٌ بالحروب والأزمات، هي شهادة عليه لا له، ولا بالرقابات الرسمية البلهاء، أو برأس المال المتحكم بكل شيء. يستطيع المبدع الحقيقي فرض ما يشاء بقوة نصّه الابداعي، كلما كان النصّ أكثر ابداعاً صارت السلطات السياسية والمالية ضعيفةً حياله وأقلَّ قدرة على مواجهته أو تجاهله، ثم أن المبدع الحقيقي قادرٌ على تمرير رسائله بذكاء وحنكة من دون الاصطدام المباشر بما يحول دون وصول صوته للناس، المهم توافر النيّة والوعي والمعرفة والإحساس بالمسؤولية الملقاة على عاتقنا جميعاً، خصوصاً في هذه اللحظات الحرجة من تاريخنا. سنظلّ نذكِّر بهذه المسؤولية، ونشير دائماً الى ما يمكن أن يتسبب به الفن، بقصد أو بدونه، من تسطيح للعقل وتجويف للوعي، ونضيف اليوم: من تجريف للذاكرة وتحريف للوقائع، ولنا في السينما الهوليودية خير برهان.
قيمة أي عمل فني تكون بمقدار تعبيره عن الانسان، عن واقعه وتطلعاته وأحلامه ومشاعره وأفكاره وخياله ورؤاه الظاهرة والباطنة، كلُّ فنٍّ لا يقول الانسان لن يُكتَب له لاحقاً أن يُقال، ونكاد نقول: لا يستحق أن يُقال!!