"الشبيبة" تعيش ليالي رمضان في رحاب "حي الحسين"

مزاج الخميس ١٦/يونيو/٢٠١٦ ٠٤:٣٨ ص
"الشبيبة" تعيش ليالي رمضان في رحاب "حي الحسين"

القاهرة- خالد البحيري

في قلب القاهرة الفاطمية التي أرسى القائد جوهر الصقلي دعائمها، لتليق باستقبال الخليفة المعز لدين الله، يقع حي الحسين التاريخي بكل ما يذخر به من صفحات تحكي تاريخ مصر منذ أكثر من ألف عام، وهناك يحلو السهر حتى الفجر في ليالي رمضان، فكل حارة من حواريها الضيقة تكتب فصلا من فصول سيرة المشاهير، هنا كتب نجيب محفوظ ثلاثيته الشهيرة (بين القصرين وقصر الشوق والسكرية) وهنا كان الإمام الراحل محمد متولي الشعراوي، يعيش وفي هذا المسجد كان يسجل خواطره الإيمانية.
ما إن ينطلق مدفع الإفطار حتى تتوافد العائلات من شتى بقاع القاهرة وضواحيها، ويبدأ زوارها من العرب والأجانب الحج إلى حي الحسين التاريخي، لقضاء ليلة استثنائية، على تلك المقاهي العتيقة، عنوانها وجبات من مطاعم تجاوز عمرها الثمانين عاما، ومشروبات ساخنة على مقهى أم كلثوم والفيشاوي، وطرب أصيل يقدمه عازف عود ماهر يتجول بين طاولات الضيوف ليسمعهم ما يطلبون مقابل جنيهات معدودة.
الأمر هناك لا يقتصر على ذلك فحسب بل تنشط حركة تجارية تبدأ من باعة ألعاب الأطفال وتمتد إلى رسوم الحناء على أيدي الصبايا من رواد المكان، وبعض الملابس التقليدية ذات الصبغة الدعائية التي تعود للعصور الفرعونية.. حتى باعة الكتب والمجلات الثقافية لا يفوتون الفرصة ويتجولون حاملين من لذ وطاب من غذاء العقول عل أحدهم يشترى كتابا أو رواية.

مقهى الفيشاوي
"الشبيبة" كانت هناك، حيث لا موطئ قدم يمكن أن تقف فيه، أو مقعد فارغ ينتظر الزبائن، رصدت وسجلت بعدسات كاميرتها هذه الأجواء، وكانت البداية من مقهى الفيشاوي الواقع في أحد الممرات الضيقة الملاصقة لحي خان الخليلي، لا يمكن وسط هذا الزحام تحديد جنسيات عدد الجالسين، لكن القاسم المشترك بين معظمهم هو "الشيشة" بنكهاتها المختلفة، والابتسامة العريضة التي لا تكاد تفارق الوجوه، و"القهقهات" التي تنطلق بين لحظة وأخرى كلما مرّ على الخاطر موقفا يبهج النفوس، وصور "السيلفي" التي لا تعبأ بالمارة أو الزحام.
اقتربنا من إحدى الأسر حيث قال المهندس محمد عبد السلام البيومي : هذا هو المقر الرسمي للترفيه عن أسرتي في رمضان، بل ننتظر هذه الزيارة من العام للعام، لكي نعيش في هذه الأجواء ونستمتع بطقس أسري نتبادل فيه أطراف الحديث، ونعود إلى ذلك الدفء الذي سرقه من بيننا الواتس أب والفيس بوك، وبرامج ومواقع التواصل الاجتماعي، هنا لا أحد يرد على هاتفه ولا يتواصل مع أصدقائه هذا هو شرطي الوحيد قبل الانطلاق من المنزل.
وأضاف: السهرة هنا ليست مكلفة بل تتناسب مع مختلف المستويات ويمكن لعائلة مكونة من 5 أفراد قضاء ليلة مميزة مع السحور بـ500 جنيه تقريبا (50 دولار في المتوسط) لكن تأثيرها ينعكس على نفسية الجميع بالإيجاب، كما أن زوجتي عاشقة للصلاة بالجامع الأزهر الذي يعود تاريخ بنائه لأكثر من 1100 عام تقريبا، ولذلك نأتي بعد المغرب إلى الجامع أولا لصلاة العشاء والتروايح، وسط طلاب الأزهر القادمين من أكثر من 90 دولة، وسكان الحي والقادمين من المحافظات الأخرى، بعدها نتجول في خان الخليلي أو الغورية قليلا، ثم نحط رحالنا هنا على المقهى لنستريح ونكمل سهرتنا حت نصلي الفجر في مسجد الإمام الحسين رضي الله عنه، ونعود إلى بيتنا مع إشراقة شمس يوم جديد.

بائع الطربوش
وعلى مقهى أم كلثوم يتجول بائع للطرابيش (جمع طربوش وهو غطاء أحمر اللون تتدلي منه قطعة قماش سوداء على شكل خيوط وكان من ضمن الزي الرسمي للمصرين حتى ثورة 23 يوليو 1952)، سألناه عن سر بيع هذا الطربوش الذي انقرض منذ أكثر من نصف قرن فقال: نعم تم إلغاء الطربوش كغطاء لرأس الموظفين والباشوات والأعيان لكن لا تزال هناك ورش تعمل على تصنيع الطرابيش فهناك بعض السائحين الذين يروق لهم شراءه، فضلا عن تغطية احتياجات السينما والدراما التلفزيونية وخاصة المسلسلات التاريخية.
وتابع: الطرابيش التي أبيعها ليست أصلية وإنما تقليد، ويشتريها رواد المقاهي هنا من باب المزاح أو اقتناء شيء من زمن فات، كما أن الكثيرين يستغلون فكرة التجريب ويرتدونها ويلتقطون بها صورا تذكارية ثم يعيدونها إلىّ مرة أخرى دون دفع الثمن؛ لكن لا بأس ولا يمكن منع الزبون من ذلك.
وأردف: أبدأ العمل من بعد الافطار وحتى السحور وقد أبيع 10 قطع أو أقل لكن العائد منها يكفي وأعود لأولادي ومعي 100 جنيه تقريبا (11 دولار) كما أن بعضا من أهل الخير من المصريين والسائحين العرب قد يعطيني "إكرامية" دون أن يشتري مني.

عازف العود
وعلى مقربة منه كان يجلس عازف عود يتقمص شخصية الراحل سيد مكاوي، ويرتدي نظارة سوداء يتنقل من طاولة إلى أخرى حسب الطلب، ويعزف للحاضرين مقطوعات من أغاني أم كلثوم وعبد الحليم ونجاة وغيرهم من فناني الزمن الجميل، وإلى جواره صبي لا يتجاوز الـ13 عاما يمسك بـ"دف" ويتابعه في العزف، وعلى حسب إعجاب الزبون بالعزف تكون الإكرامية التي تبدأ في الغالب بـ20 جنيها وقد تصل إلى 100 جنيه من طاولة واحدة، ولذلك عازف العود هو الأكثر حظا في هذه الليالي حيث يعود في نهاية الليلة بعد دفع أجرة الصبي بنحو ألف جنيه (أكثر من مائة دولار).

رسوم الحناء
الرسم بالحناء له أيضا نصيب من زبائن الحي العتيق، وفي الغالب تقوم به نساء من جنوب مصر "النوبة" أو من السودان الشقيق، وتعتمد في الرسم على الحناء السوداء، وبعض الرسومات الجاهزة بحيث لا يستغرق الأمر أكثر من 5 دقائق تزين بعدها الحناء أيدي عاشقات الزينة والجمال، مع دفع مبلغ نحو 35 جنيها للرسمة الواحدة، الطريف أن بعض الفتيات يطلبن رسم الحناء ليس فقط على أيديهن ولكن على أجزاء أخرى من الجسد مثل الكتف والأرجل وغيرها.

للفقراء نصيب
حتى الفقراء الذين لا يستطيعون دفع تكلفة الجلوس على أحدى المقاهي السياحية لهم نصيب من هذه الأجواء البديعة ففي حديقة دائرية تتوسط منطقة الحسين تفترش الأسر الفقيرة الأرض المغطاة بالعشب الأخضر أو الرخام، ويتناولون ما جلبوه معهم مثل اللب والفول السوداني، وقطع الكنافة ولقمة القاضي، ويحتسون اكواب الشاي من إناء يحفظ الحرارة جاءوا به خصيصا من أجل مثل هذه الأوقات، وفي آخر الليل يتناولون "الساندويتش" من أحد محلات الفول والفلافل المنتشرة في الحي وبأسعار لا تتجاوز جنيهين للساندوتش الواحد.
وفي ختام السهرة يقوم الفقراء والأغنياء على حد سواء بين يدي خالق الكون في أحد المساجد الشهيرة بالمنطقة ضارعين إلى الله أن يحفظ عليهم نعمة الأمن والأمان وأن يتقبل صيامهم وأن يديم عليهم الوئام والمحبة ويعيد شهر رمضان الكريم عليهم بالخير والبركات.