الهجرة والجدران العازلة

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ٠٦/يونيو/٢٠١٦ ٠٠:٢٣ ص
الهجرة والجدران العازلة

فيكتور ديفيز هانسون

عندما نقف اليوم عند جدار هادريان في شمال انجلترا تتبدى أمامنا حالة من الرغد والهدوء على كلا الجانبين، ولكن قبل نحو 1900 سنة، وفي عام 122 ميلادي أمر الإمبراطور الروماني هادريان ببناء جدار بطول 80 ميلا، وارتفاع 20 قدم لحماية الحضارة الرومانية في بريطانيا من القبائل الاسكتلندية في الشمال. وربما يعتقد البعض في الوقت الحاضر أن الجدران والحدود المحصنة طريقة غير فعالة أو لا لزوم لها، إلا أنها ما تزال على ما يبدو تقوم بمهمة كاملة في الوقت الحاضر على حدود عدد من الدول. وعلى الجانب الروماني من جدار هادريان كان القانون سائدا والمحاكم تؤدي دورها وفنون الآداب والثقافة منتشرة بينما على الجانب الآخر كان العنف والقبلية الأقل تحضرا، وكانت القبائل الاسكتلندية تحمل كراهية تجاه الاستعمار الروماني المتطفل وتسعى لإخراجه من جزيرة بريطانيا، إلا أنه ولبعض الأسباب لم يرحب الاسكتلنديون بالجدار الذي حال أيضا دون دخول الرومان الى اسكتلندا.
وكان هدف الرومان الغاضبين من بناء الجدار هو منع الاسكتلنديين من دخول بريطانيا الرومانية، سواء لشن غارات أو للتجارة أو الهجرة أو القتال. واليوم ثمة مشاكل داخل الاتحاد الأوروبي مع الدول الأعضاء التي ترفض تطبيق حدود داخلية صارمة لها، لاسيما في ظل حاجة الدول الأوروبية للحفاظ على القارة من موجات المهاجرين من شمال أفريقيا والشرق الأوسط. ومثل الرومان تقوم بعض دول الاتحاد الأوروبي بصورة فردية ببناء الأسوار والجدران لمنع دخول الآلاف من المهاجرين غير الأوروبيين، سواء لأسباب أمنية أو اقتصادية وطنية. ويسعى كثير من شعوب الشرق الأوسط للهجرة إلى أوروبا للمزايا المادية والحضارية التي لا يجدونها في بلدانهم سواء في الجزائر أو العراق أو ليبيا أو المغرب أو سوريا أو غيرها، غير أن العديد من الوافدين الجدد يوجهون انتقادا شديدا الى الثقافة الشعبية الغربية وكذا الإباحية والدين، إلى حد عدم الرغبة في الاندماج في الثقافة نفسها التي اندفعوا اليها.
ويبدو أن ثمة قدر كبير من الغموض يكتنف المهاجرين في العصر الحديث على الجانب الأكثر فقرا أو الأقل استقرارا من الحدود ، في تشابه واضح مع نظرائهم القدماء حول ما يريدونه ، فهم يسعون الى الأمن والرخاء الذي تنعم به معظم النظم في الغرب، سواء الأوروبية أو الأمريكي، ولكن ليس بالضرورة أن يتنازلوا عن الهويات الثقافية والقيم التي حملوها معهم في مجتمعاتهم الأصلية.
ويبدو أن هادريان كان قد شعر أن موارد روما محدودة وتخضع للضرائب وأن الإمبراطورية لا تستطيع التوسع ولا يمكنها السماح لقبائل أخرى بالدخول الى الأراضي الرومانية، ومن ثم كان الحل الذي ارتآه هو بناء جدار لفصل بريطانيا عن اسكتلندا، وبالتالي ابعاد القبائل التي تريد أن تدخل أراضي دولته ولكنها لا ترغب في الاندماج الكامل في المجتمع الروماني.
وهذه المفارقة نفسها هي التي تميز التظاهرات الاخيرة والعنيفة في بعض الأحيان للمسيرات المؤيدة لترامب والجدل الدائر حول السياج المحتمل بناؤه على الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك بما يعادل 25 ضعفا لطول سور هادريان، وكذا حالة الغضب العام إزاء سياسات الهجرة.
وغالبا ما توجه المكسيك انتقادات الى الولايات المتحدة بيد أنها تشجع الملايين من شعبها على الهجرة إلى أمريكا، وبعض المتظاهرين بدورهم يرفعون علم دولة لا يرغبون في كثير من الأحيان في العودة اليها أكثر من علم الدولة التي يخشون أن يتم ترحيلهم منها، واللافتات التي ترفعها مسيرات الاحتجاج تندد بالولايات المتحدة وتكيل المديح للمكسيك، بنفس الطريقة التي كان الاسكتلنديون لا يحبون بريطانيا الرومانية إلا أنهم يبغضون فكرة وجود جدار محصن يفصلهم عن الرومان. فما هي الإجابات لهذه التناقضات البشرية؟
الواقع أن روما عندما دخلها الأجانب عملت وأثمر ذلك وجود الرومان، ولكنها فشلت عندما فر القادمون الجدد إلى الإمبراطورية إلا أنهم تمسكوا بشدة بثقافاتهم التي كانت على خلاف مع نظيرتها الرومانية التي اختاروها في الظاهر.
لم تكن هناك جدران بين مقاطعات الإمبراطورية الرومانية، تماما كما لا توجد جدران بين الولايات الأمريكية، لأن اللغة والقيم والقوانين المشتركة تصهرهم جميعا في بوتقة واحدة، إلا أن الحواجز والتحصينات بدأت في الظهور تدريجيا في جميع أنحاء الطوق الخارجي للعالم الروماني عندما لم تعد روما قادرة على استيعاب مجتمعات ترفض التجانس والاندماج معها.
ولو أن المكسيك وغيرها من بلدان أمريكا اللاتينية تبنوا الكثير من القوانين واللوائح الأمريكية لما اختلف مستوى المعيشة عن نظيره في الولايات المتحدة تماما كما أنه لا توجد اليوم فروق بين اسكتلندا وبريطانيا. أو لو أن المهاجرين من أمريكا اللاتينية قد اندمجوا في المجتمع الذي هاجروا اليه لما كان هناك حاجة للتفكير في الجدران.
وكما يكشف التاريخ ، فالحاجة الى بناء الجدران تنشأ عندما تكون المجتمعات المجاورة على طرف النقيض، وعندما ترغب أعداد كبيرة من المهاجرين في عبور الحدود ولكن دون أن يصبحوا بالضرورة جزءا من المجتمع الذي هاجروا إليه. وهذه دروس قاسية وقديمة حول الطبيعة البشرية ولكنها صحيحة وباقية في كافة العصور.

مؤرخ في معهد هوفر في جامعة ستانفورد،
وأحدث مؤلفاته: أبانا جميعا: الحرب والتاريخ، القديم والحديث