جرت العادة ان تكون انتخابات اختيار عمدة أي مدينة شأن محلي، حتى وان كانت هذه المدينة امريكية، و تتعلق بنيويورك، عاصمة المال والأعمال، الا ان الامر بالنسبة للانتخابات القادمة بهذه المدينة الهامة يعد حالة استثنائية و مختلفة كليا.
لقد اصبح لهذه الانتخابات وقع خاص، حيث تحظى تطوراتها بمتابعة وترقب، وباتت نتائجها محط انظار العالم، وذلك لما لها من تداعيات وانعكاسات على مستقبل السياسة الامريكية وربما بالعالم اجمع. تطرح هذه الحالة اسئلة كبرى، فهل يمكن لمدينة المال والإعمال  والبورصات أن تنتخب عمدة اشتراكيًا مسلمًا يرفع شعار العدالة الاجتماعية بدل الأرباح؟ السؤال لم يعد افتراضًا طوباويًا. فمع اقتراب انتخابات الرابع من نوفمبر، تبدو نيويورك – التي طالما كانت رمزًا للرأسمالية الأمريكية – على أعتاب لحظة سياسية غير مسبوقة. في قلب هذا الزلزال الانتخابي يقف زهران ممداني، المرشح الأوفر حظًا لصنع التاريخ حيث تشير نتائج الاستطلاعات الاخيرة الى تقدم المرشح المسلم والاشتراكي الديمقراطي نحو الواجهة - اذا لم تشهد الانتخابات مفاجأت كبرى- وبان المرشح الأوفر حظاً بالفوز بالانتخابات ليصبح اول  عمدة مسلم لمدينة نيويورك. ومع ان هناك اكثر من مسلم وعربي سبق ممداني لهذا الشرف، الا ان المكان والزمان والضروف لها مكانة خاصة،  فلماذا نيويورك، ولماذا زهران ممداني، ولماذا الان؟ هو ما يحاول هذا المقال تتبعه ومناقشته.
لعل اهم اسباب الأهمية والاستغراب هي شخصية ممداني نفسه! فلقد جرت العادة على ترشح الاسماء ذات التأثير الكبير والسمعة القوية او تلك الشخصيات التي تحظى برمزية وكاريزما تمثّل مصالح مدعومة من جهات ذات شأن ونفوذ بالمدينة، الا ان ممداني كان استثناءً بكافة المقاييس؛ فالرجل لم يكن معروفاً قبل عدة اشهر ليحظى بكل هذا الزخم، شخصيته عادية، سجله الوظيفي شبه خالي، باستثناء عضويته بالجمعية التشريعية لولاية نيويورك، لايزال في بداية الثلاثينات من عمره وتعليمه عادي جداً، كما انه لاينتمي الى عالم الأعمال او البنوك الكبرى او حتى من المشهورين على شبكات التواصل الاجتماعي. بالرغم من ذلك تمكن ممداني من عمل المستحيل واستطاع كسر احتكار النخب التقليدية.حيث نجح في حشد نحو ٩٠ الف متطوع الى حملته ليبثّ فيها روح الحماس والتأييد، وهو ما مكّنه من مخالفة كل التوقعات ومقارعة الكبار وهزيمة كلاً من الحاكم الحالي والسابق للمدينة لينتزع بكل جدارة بطاقة ترشيح الحزب الديمقراطي الأكثر حضوراً بنيويورك للمنصب.
من الاسباب التي لاتقل أهمية عن ما سبق، هي الايدلوجيا ومجموعة الافكار والمبادئ  التي يعتنقها ممداني ويروّج لها في حملته الانتخابية! فالمعروف ان نيويورك هي قلعة الرأسمالية ومركز المال والأعمال والاقتصاد الحر بالعالم، وهي المدينة ذات الجالية اليهودية الاكبر والابرز والأقوى نفوذاً، خارج الارض المحتلة، ومع ذلك يعرّف ممداني نفسه، وبكل فخر،  على انه إشتراكي ومن الجناح المتقدم بالحزب الديمقراطي Prograssive، وابرز اجندته تتحدث عن انقلاب في السياسات المعهودة تميل لصالح الطبقة الاقل حظوة بالمجتمع من خلال توفير وسائل نقل مجانية، تثبيت الايجارات لمدة خمس سنوات وفرض ضرائب اكبر على الأغنياء بالمدينة، كما انه يعبّر بوضوح عن اراءه حيال الكيان الصهيوني ويعترف انه من المناصرين للقضية الفلسطينية ويتحدث عن الابادة بغزة، بل انه حتى هدد باعتقال نتنياهو اذا حضر للمدينة والعمل على تسليمه للمحكمة الدولية. ومع كل مايبدوا انه تناقضات للثوابت المتعارف عليها للسياسة وللحدود بين الاعتقادات الشخصية والمبادئ العامة، استطاع ممداني ان يخترق هذا الجدار الناري ويتجاوز المسلّمات ويواصل مسيرته الكبرى نحو الفوز. الرئيس ترامب المعروف بعدوانيته المعروفه لكل من يعارض توجهاته ويستمتع بسحق خصومه، حاول مراراً التعرض لممداني الى حد اتهامه بنبني الفكر الشيوعي والتهديد باسقاط الجنسية الامريكية عنه لكنه لم يفلح في كل محاولاته وكانت نتائج تدخلاته عكسية. استنتج ترامب بسرعة، انه كلما  اشتدّ عداءه لممداني، كلما ازداد الدعم الشعبي لحملته وكأنها ثورة ناعمة على المنظومة.
ومع ان كل هذه التطورات لاتعد تغييراً للسياسات السائدة، الا انها مع ذلك تمثل  تحولات هامة قد تكون لها تداعيات وتأثيرات كبرى على نهج السياسة الأمريكية مستقبلاً وذلك على عدة اصعدة هامة، فهي ثورة على قواعد اللعبة الاقتصادية، لعل أهمها؛  بروز الدور المتصاعد لفئة الشباب بالولايات المتحدة الامريكية والتحرر من بعض مايعتقد انها ثوابت راسخة كالرأسمالية المطلقة والدعم لاسرائيل ومعاداة الأنظمة التي تختلف والنهج الامريكي، بالاضافة الى تعزيز فرص صعود الجناح التقدمي الشاب  بالحزب الديمقراطي ومواجهة القيادة الحالية والفكر الكلاسيكي للحزب، ناهيك عن تحدي افكار وتوجهات  الرئيس ترامب ومنافستها بالإنتخابات الرئاسية القادمة. ونظراً لان السياسة الداخلية لامريكا ذات ابعاد عالمية ولها تأثير حاسم على طبيعة النظام والسياسة الدولية، فإن لهذه التطورات أهمية وشأن في قادم الايام.
ومع اننا لايجب ان نغرق في التفاؤل، ولابد من التعلم من التجارب السابقة التي تذكرنا ان الدولة العميقة لن تسمح بكل هذه التطورات دفعة واحدة، كما ان الكثير من العقبات وعلى رأسها العنصرية والتمييز والإسلاموفوبيا لاتزال حاضرة وبقوة.  كما ان المفاجأت قد تحدث والتحالفات قد تتم باللحظات الأخيرة لتؤدي الى وضع عراقيل لعملية الانتخابات لتتضاءل معها فرص ممداني بالفوز. كما انه حتى وان تمكن من الفوز، فانه قد يغيّر من قناعاته او يتعرض لمضايقات كبرى تحيده عن المبادئ التي سبق وان اعلنها والوعود الاي اطلقها- وهذا شي طبيعي ومتعود عليه بالسياسة- الا ان المتفق عليه ان شرارة التحوّل قد اشعلت وان نموذجه بداء بالهام اخرين بولايات اخرى وان السياسات الحالية لن تصمد طويلا وستتعرض للتحدي. انه تحول عميق يرمز إلى صعود جيل عالمي جديد يعيد تعريف اليسار في القرن الحادي والعشرين — يسار يؤمن بالعدالة والمناخ والسلام أكثر من الشعارات الأيديولوجية. لاشك ان انتخابات نيويورك بتاريخ ٤ نوفمبر القادم ستساعدنا لنرى  الطريق بشكل اوضح.