المتقاعدون في سلطنة عُمان: من هامش الخبرة إلى قلب التنمية
مقدمة
يُخيَّل للبعض أن التقاعد هو إسدال الستار على المسيرة المهنية، لكن الواقع العُماني يروي قصة مغايرة. لدينا آلاف المتقاعدين أُحيلوا للتقاعد الإجباري في الأربعينيات أو الخمسينيات من أعمارهم، وما زالوا في ذروة عطائهم الفكري والعملي. ولدينا عشرات الآلاف من المتقاعدين في القطاعات العسكرية والمدنية والقطاع الخاص. هؤلاء ليسوا عبئًا على الدولة، بل رصيدًا وطنيًا لم يُستثمر بعد.
غير أن غياب منصة حقيقية لاستثمار خبراتهم وسّع الفجوة بينهم وبين مؤسسات الدولة، وأدى أحيانًا إلى مشاعر إحباط أو عزلة. والأسوأ أن تأخير إشهار جمعية وطنية خاصة بالمتقاعدين (الجمعية العُمانية للمتقاعدين) – تحت مبررات متكررة وانتظار لا ينتهي – أصبح تعطيلًا غير مبرر، بينما أُشهرت جمعيات أخرى خلال العامين الماضيين بلا هذا التأخير. إن هذا الوضع لا يضعف فرص المتقاعدين فحسب، بل يُفوّت على الدولة إمكانية تحويلهم من متلقين للمزايا إلى شركاء فاعلين في التنمية.
---
المتقاعدون… رصيد وطني لا يُهدر
التجارب العالمية تؤكد أن المتقاعد يمكن أن يكون لاعبًا محوريًا في الاقتصاد والمجتمع: من تقديم الاستشارات وصياغة السياسات العامة، إلى قيادة المبادرات التعليمية والمجتمعية. هذه الفئة تمتلك تراكمًا معرفيًا وخبرة مؤسسية يصعب تعويضها. تجاهل هذا الرصيد يعني خسارة مضاعفة: خسارة خبرة وخسارة ثقة.
أما على المستوى المهني، فإن بين صفوف المتقاعدين طيفًا واسعًا من الكفاءات يشمل المهندسين، والأطباء، والممرضين، وخبراء الطيران، والمحاسبين، والقانونيين، والمدربين، والمعلمين، والفنيين، وخبراء تكنولوجيا المعلومات، وخبراء الطاقة، وخبراء الأمن والسلامة، والإعلاميين، وغيرهم من أصحاب التخصصات النادرة. هذا التنوع يمنح عُمان فرصة فريدة لتوظيف خبراتهم في مشاريع تنموية كبرى، بحيث يسهم كلٌّ في مجاله في نقل المعرفة، وتعزيز الإنتاجية، ودعم مسيرة التنمية الوطنية.
إلى جانب ذلك، لا ينبغي إغفال البعد الإنساني؛ فالمتقاعد يظل فردًا مؤثرًا في أسرته ومجتمعه، يقوم بدور المربي، والمرشد، والحاضن القيمي للأجيال الجديدة. إن إعادة دمج هذه الطاقات في قلب العمل الوطني يضيف قوة اجتماعية ومعنوية تعزز من التماسك الوطني.
---
الاستثمار الاقتصادي وتمكين الباحثين عن عمل
يمتلك المتقاعدون خبرات متعمقة في الإدارة، والمالية، والهندسة، والتعليم، والطب، والطيران، والفنون. يمكن ترجمة هذه الخبرات إلى قيمة اقتصادية مباشرة وغير مباشرة من خلال تأسيس شركات تعاونية يقودونها، إدارة صناديق استثمارية، وتقديم الدعم الفني للمشاريع الناشئة.
وفي الوقت نفسه، يمكن إشراكهم عمليًا في جهود تمكين الباحثين عن عمل عبر قيادة برامج تدريب تخصصية، الإشراف على محاكاة بيئة العمل، المساهمة في إنشاء حاضنات أعمال ومسرّعات مشاريع، وتقديم استشارات للشركات الناشئة. وبفضل معرفتهم العميقة باحتياجات سوق العمل وشبكاتهم الواسعة، يستطيعون صياغة خرائط مهارات وطنية، والمشاركة في تطوير المناهج بالتعاون مع المؤسسات التعليمية.
الأهم من ذلك، أن الإحلال التدريجي في الوظائف التي تستورد عُمان خبرات من الخارج – كالقطاع الصحي، والطيران، والهندسة، والإشراف المؤسسي – يمكن أن يكون أداة عملية وفعّالة لتقليص الاعتماد على العمالة الوافدة. عبر برامج توظيف مرنة، وإنشاء وحدات استشارية وطنية، يمكن الاستفادة من المتقاعدين لإبقاء القيمة الاقتصادية داخل البلاد، وتعزيز ثقة المجتمع بخبراته الوطنية.
---
الجمعية الوطنية للمتقاعدين… بعد إنساني ومنصة إنتاج
التقاعد المبكر قد يكون صدمة للبعض، والجمعية الوطنية المقترحة ليست مجرد مكان للقاءات اجتماعية، بل كيان يجمع بين البعد النفسي والاجتماعي والبعد التنموي. فهي تمنح المتقاعد إحساسًا بالقيمة والانتماء، وتحوّل علاقته بالدولة من شعور بالعزلة إلى شراكة قائمة على المسؤولية الوطنية.
وفي الجانب العملي، تمثل الجمعية منصة لإطلاق مبادرات إنتاجية وبحثية، وتقديم دراسات معمقة تدعم الخطط الوطنية، إضافة إلى استشارات في الإدارة والعمل والمالية. وجودها يخفف الإنفاق ويحسن الأداء المؤسسي، ويعزز التماسك الاجتماعي. المتقاعد ليس عبئًا، بل جوهر خبرة وطنية يجب استثمارها بما يضيف قيمة ملموسة ومعنوية للمجتمع والدولة.
---
الجمعية ليست منشأة مستنزِفة، بل تولّد دخلها بنفسها
من الضروري أن ندرك أن الخبرات المتوفرة في صفوف المتقاعدين تجعل الجمعية ليست كيانًا يستهلك من ميزانية الدولة، بل مؤسسة قادرة على إيجاد التمويل بطرق ذاتية، منها:
1. رسوم العضوية: كما هو معمول به في اتحادات المتقاعدين في كندا وفرنسا، حيث يدفع العضو اشتراكًا سنويًا رمزيًا.
2. تقديم خدمات مدفوعة للمجتمع: مثل الدورات التدريبية، الاستشارات، والورش، كما تفعل جمعيات المتقاعدين في الأردن والمغرب حيث تُنظم برامج تدريبية للشباب مقابل رسوم منخفضة.
3. شراكات مع مؤسسات القطاع الخاص: على غرار بعض النماذج في مصر وتونس، حيث توقع الجمعيات بروتوكولات تعاون مع البنوك وشركات الاتصالات لدعم برامجها.
4. المشاريع الاجتماعية القابلة للاستثمار: كما في ألمانيا والسويد، حيث تدير جمعيات المتقاعدين مراكز مجتمعية أو خدمات رعاية مدفوعة تحقق دخلاً مستدامًا.
---
تجارب ملهمة عالميًا وعربيًا وخليجيًا
اليابان: "الاقتصاد الفضي" حيث يواصل كبار السن العمل في وظائف قصيرة المدى.
كوريا الجنوبية: أكثر من 24% ممن تجاوزوا السبعين نشطون في الزراعة والخدمات.
أيسلندا ونيوزيلندا: نسب تشغيل مرتفعة للفئة 55–64 عامًا.
أستراليا: توظيف المتقاعدين في النقل والخدمات.
الولايات المتحدة: شركات الطيران تستعين بهم في التدريب والإدارة مع امتيازات مدى الحياة.
الكويت: معاشات سخية ونظام "عافية" للتأمين الصحي الخاص.
السعودية: رفع سن التقاعد تدريجيًا ومساواة المرأة في المزايا.
الإمارات: خطط ادخار واستثمار ذهبي بعد التقاعد.
الخليج عمومًا: برامج ادخار مشتركة لضمان الاستقرار المالي.
المغرب وتونس: مبادرات لدمج المتقاعدين في العمل التطوعي والتدريب المجتمعي.
فرنسا وألمانيا: جمعيات المتقاعدين تتحول إلى بيوت خبرة تقدم الاستشارات للحكومات والشركات.
---
رؤية عملية لعُمان
1. إنشاء قاعدة بيانات وطنية لخبرات المتقاعدين.
2. تطبيق برامج إحلال تدريجي في الوظائف الممكن إحلالها.
3. تأسيس مراكز تدريب وتمكين بقيادة المتقاعدين.
4. منصة رقمية لربطهم بفرص العمل والاستثمار.
5. إطلاق برامج استثمارية يديرها المتقاعدون لدعم الاقتصاد الوطني.
---
خاتمة
المتقاعد العُماني ليس نهاية مسار، بل بداية لدور وطني جديد. لكن استمرار تأخير إشهار الجمعية الوطنية للمتقاعدين لم يعد مجرد إجراء إداري مؤجل، بل إضاعة لفرصة تنموية كبرى.
إشهار الجمعية ليس ترفًا ولا مطلبًا فئويًا، بل قرار استراتيجي عاجل يحوّل المتقاعدين من متلقين للمزايا إلى شركاء في الإنتاج، ويمكّن الدولة من الاستفادة من خبراتهم في تمكين الباحثين عن عمل، وتقليص الاعتماد على الخارج، ونقل المعرفة بين الأجيال.
القضية في جوهرها ليست قضية متقاعدين، بل قضية وطن يحتاج كل خبرة في رحلة التنمية.