أ.د. حسني نصر
شاركت سلطنة عمان العالم الأسبوع الفائت في الاحتفال باليوم العالمي لحرية الصحافة الذي يوافق الثالث من مايو من كل عام، وذلك عبر احتفالية نظمتها جمعية الصحفيين العمانية، ورعاها المكرم الدكتور عيسى بن سعيد الكيومي رئيس اللجنة العمانية لحقوق الإنسان. تضمنت الاحتفالية كلمة بهذه المناسبة لرئيس الجمعية عوض باقوير، وعرض لتقرير لجنة الحريات عن أوضاع حرية الصحافة في السلطنة، وبيان رسمي، وندوة حوارية حول الحرية المسؤولة في الصحافة شارك فيها عدد من أساتذة الإعلام بجامعة السلطان قابوس ورئيس اللجنة الإعلامية بمجلس الشورى.
من حسن الحظ إنني وبدعوة كريمة من الجمعية شاركت في الندوة الحوارية التي دارت حول أربعة محاور مهمة، هي على الترتيب حدود الحرية المسؤولة في الصحافة، والأخلاق المهنية في المسيرة الصحفية العمانية، وماذا نريد من الصحافة في بناء الدولة، والحرية الصحفية أمام وسائل التواصل البديلة. ومع أهمية ما قيل في هذه الندوة يصبح من الضروري الوصول بما طرح فيها من رؤي وأفكار إلى القراء الأعزاء إيمانا بان اهتمامهم بحرية الصحافة أصبح لا يقل عن اهتمام الصحفيين والأكاديميين، خاصة في هذا العصر الذي اختلط فيه الحابل بالنابل في الحقل الإعلامي، وتباينت فيه الآراء حول حجم الحرية الذي يجب أن تتمتع به الصحافة الوطنية، بعد أن أسقطت التكنولوجيا الاتصالية الحديثة كثيرا من المسلمات والأفكار التقليدية ومن بينها فكرة السيادة الإعلامية.
في المحور الأول الخاص بحدود الحرية المسؤولة في الصحافة قلت إن هناك حدين أساسيين يجب أن يحكما أي حديث في هذا المجال. يتمثل الحد الأول في ضرورة التفرقة بين مواد الخبر ومواد الرأي. ففي الأولي تتركز حرية للصحفي في تقديم الوقائع التي شاهدها او نقلها عن مصادر موثوق بها إلى الناس بأقصى درجة ممكنة من الدقة والوضوح والصدق، فإذا لم يلتزم بذلك ونشر أخبارا كاذبة او روج لشائعات فإنه يحاسب قانونيا مثلما يحاسب المواطن العادي إذا قام بهذه الأفعال، ولا مجال في هذه الحالات للحديث عن حرية للتلاعب في الأخبار. أما في المواد التي يعبر فيها الصحفي عن رأيه في الأحداث والقضايا العامة فإنه يجب ضمان حريته في التعبير عن رأيه وعدم محاسبته عليه، إلا إذا تضمن جريمة من جرائم النشر المعروفة مثل القذف والسب والإهانة والتشهير. أما الحد الثاني فيتمثل في تحديد المسؤوليات الاجتماعية التي يجب أن تقوم بها الصحافة. ففي مقابل الدعم الذي يقدمه المجتمع لها وحمايته لحريتها فإن على الصحافة في المجتمع الحديث أن تؤدى مسؤوليات يحددها المجتمع من خلال مؤسساته المدنية ونخبه المثقفة، وليس من خلال الحكومة فقط، على رأسها بالطبع الحفاظ على وحدة وتماسك واستقرار المجتمع، ونقل التراث الوطني الحضاري بين الأجيال، ودعم مشروعات التنمية.
في المحور الثاني الخاص بالأخلاق المهنية في مسيرتنا الصحفية، كان لدي شهادة حق أدليت بها أمام الندوة. هذه الشهادة تستند إلى متابعة بحثية مستمرة للصحافة العمانية على مدي سنوات طويلة، وتقول إن الصحف والصحفيين في عُمان يلتزمون- رغم عدم وجود ميثاق شرف مهني وطني- بغالبية الأخلاق المهنية مثل مراعاة الدقة والموضوعية والأمانة والصدق، وعدم خلط الخبر بالرأي، واحترام حقوق الزمالة، وعدم نشر أسماء او صور المتهمين في الجرائم إلا بعد صدور حكم نهائي عليهم، وعدم نشر أسماء او صور الأحداث المدانين قضائيا، واحترام الخصوصية. ولولا عدم التزام بعض الصحف بالتفرقة بين الإعلان والمادة التحريرية والخلط بينهما بسبب ضغوط المعلنين والضغوط الاقتصادية، لقلت إن الصحف العمانية تلتزم التزاما كاملا بأخلاقيات العمل الصحفي. في هذا المحور أيضا رأيت من الضروري أن نفرق بوضوح بين التنظيم الذاتي وبين التنظيم القانوني للصحافة. وإذا كان الأخير تتولاه الحكومة من خلال التشريعات الصحفية التي تعالج الشأن الصحفي سواء كانت في شكل قانون للمطبوعات والصحافة او نصوص في قوانين الجزاء والشركات وغيرهما لتنظيم عملية إصدار الصحف وإدارة المطابع وتحديد المسؤوليات القانونية لرؤساء التحرير وكذلك العقوبات الخاصة بجرائم النشر، فان التنظيم الذاتي يعبر عن مبادرات تقدمها الجماعة الصحفية من خلال جمعيات ونقابات الصحافة والمؤسسات الصحفية نفسها لوضع الصحفيين أمام مسؤولياتهم الأخلاقية تجاه أنفسهم وقرائهم وزملائهم. وفي هذا الصدد من الضروري الدفع باتجاه إصدار ميثاق شرف مهني للصحفيين والإعلاميين في السلطنة تقوم على إعداده جمعية الصحفيين بالتعاون مع المؤسسات الصحفية وكذلك المؤسسات الأكاديمية المعنية بتعليم الصحافة في السلطنة.
وفي الإجابة عن السؤال الذي تضمنه المحور الثالث والخاص بماذا نريد من الصحافة، كان من الضروري الإشارة إلى أن الصحافة العمانية لعبت وما زالت دورا تنمويا كبيرا طوال سنوات النهضة المباركة، وان عليها في ظل تعدد الخيارات الإعلامية القادمة من الخارج أمام المواطن، وانتشار استخدام شبكات التواصل الاجتماعي بكل أنواعها، أن تنتقل إلى مرحلة جديدة تستهدف في المقام الأول إشباع حاجات الجمهور المحلي من المعلومات والتسلية والتثقيف، حتى يظل على ولائه لها ولا يتركها إلى وسائل الإعلام الأجنبية التي تحاصره ليل نهار، دون أن تفرط بالطبع في وظيفتها التنموية التي لا غني عنها. وحول المحور الأخير المتعلق بالحرية الصحفية أمام وسائل الإعلام البديلة أوضحنا أن كل دول العالم تقريبا، المتقدم منها والنامي، تتعامل قانونيا مع وسائل الإعلام الجديد من خلال منهجين أساسيين، الأول يتمثل في إصدار قوانين لوسائل الإعلام الجديدة ومن بينها شبكات التواصل الاجتماعي، والثاني تضمين قوانين المطبوعات والصحافة القائمة نصوصا قانونية تغطي النشر على هذه الوسائل، خاصة فيما يتعلق بجرائم النشر المعروفة او بالجرائم المتصلة بأمن الدولة، بالإضافة إلى إسناد مهام مراقبة وفلترة محتوى الإنترنت تكنولوجيا إلى هيئات متخصصة.
إجمالا يمكن القول إن احتفالية جمعية الصحفيين باليوم العالمي لحرية الصحافة كانت متميزة وتضمنت ما يمكن أن يمثل قاعدة لخارطة طريق لتطوير الصحافة العمانية وتعزيز حريتها، وهو ما يجب أن يوليه كل المتصلين بصناعة الصحافة اهتماما كبيرا في الأيام القادمة.
اكاديمي في جامعة السلطان قابوس