نصر البوسعيدي
« حينما علم الإمام ناصر بن مرشد بأن خصمه مانع بن سنان تحالف مع البرتغاليين ضد أبناء وطنه حزن كثيرا وغضب بشدة لهذا الفعل المشين والذي يتصدى له في معارك الجهاد ضد البرتغاليين ليأمر قادته بتدبر أمر اغتياله والتخلص منه لأن هذه الأرض لا تقبل الخيانات»..
بينما كان أهل عُمان يتصارعون على السلطة في نزاعات أهلية مؤلمة، وصل الجيش البرتغالي إلى سواحل البلاد ليرتكب فيها أفظع المجازر ضد الأهالي قتلا وحرقا وتدميرا قادما بكل وحشية من أوروبا لتنفيذ مشروع القضاء على المسلمين وتجارتهم ونبش قبر نبينا الكريم وهدم الكعبة لولا تدخل المماليك في معارك البحر الأحمر والتي جعلتهم عاجزين عن دخول مكة والمدينة ليتفرغوا بعد هزيمتهم من المماليك لصب جام غضبهم وأحقادهم وجرائمهم ضد أهل عُمان.
لقد ضاق الأهالي من ويلات الغزو البرتغالي وخاصة في صور وقلهات وقريات ومسقط وبركاء وصحار وجلفار وجميع مدن عمان الشمالية وحتى حدود البحرين من كارثة هذا الاستعمار في ظل مثلما اسلفت نزاع الحكم الدائر في عُمان منذ قرون وحتى عام 1624م، هذا العام الذي شهد اجتماع العقلاء من أهل الحل والعقد بقيادة الشيخ خميس بن سعيد الشقصي ومسعود بن رمضان النبهاني، وصالح بن سعيد الزاملي، وخميس بن رويشد المجرفي، وعبدالله بن محمد الكندي وغيرهم، وكان ذلك في الرستاق بعد عمل سري واجتماعات مكثفة لإحياء انتخاب حاكم عُمان واختيار الشاب اليتيم ابن العشرين عاما ناصر بن مرشد بن مالك بن أبي العرب اليعربي أحد أحفاد ملوك الرستاق في عصر الطوائف، ليتم مبايعته وعقد الإمامة له لحكم عُمان وتحديدا في مسجد قصرى.
بدأ الإمام ناصر بعد توليه الحكم مباشرة بأبناء عمه حكام نخل وما حولها الرافضين لمبدأ الوحدة تحت حكمه، فأنهى سلطتهم وبدأ رحلته الطويلة التي تجاوزت العشر سنوات لتوحيد عُمان بواسطة شجاعته وشجاعة قادة التغير من العلماء الذين ساندوا بيعته وأصبحوا لهم في عهده الشأن الكبير بمعارك التحرير من الاستعمار البرتغالي الغاشم.
بعدما تمكن الإمام ابن مرشد من توحيد البلاد تحت سلطته لينهي بذلك أكبر معضلة كانت تواجه أهل عُمان وتسببت بضعفهم واحتلال سواحلهم من قبل البرتغاليين، بدأ بشكل عملي بتوجيه جل ضرباته العسكرية اتجاه البرتغاليين الذين كانوا يخنقون عُمان اقتصاديا نتيجة تحكمهم بالتجارة البحرية عبر الموانئ العمانية وحرمان العمانيين من ممارسة ومزاولة التجارة وبالتالي ضعف ميزانية الدولة وتسليح الجيش ضدهم.
لم يكن الإمام ناصر سيستطيع لوحده مقاومة جبروت هذا المستعمر لولا وجود القادة من حوله، فشكلوا سويا ملحمة من البطولات والشهادة ضد هذا المستعمر الذي اعتبره أغلب المؤرخين بأنه الأوحش اجراما في العصر الحديث.
وهنا سأحاول جاهدا أن أسلط الضوء على أبرز قادة الإمام لنحفظ ونؤرخ سيرتهم واسماءهم التي ستبقى خالدة للأجيال حتى نهاية العالم.
كانت المهمة الأصعب التي تواجه هذا الحاكم الشاب وقادته، تحالف المعارضين مع البرتغاليين للحفاظ على مكاسبهم ونكاية بالوحدة الوطنية، لذا نجد أن البرتغاليين استثمروا طمع البعض للسلطة والمال فأقاموا بعض التحالفات مع أعداء اليعربي في بعض سواحل عُمان كمسندم وصحار ومسقط بالإضافة إلى بعض أمراء الداخل كمانع بن سنان.
لم يثن كل ذلك عزيمة قادة التحرير فأرسل الإمام الشيخ المعروف (مسعود بن رمضان النبهاني) في أواخر عام 1632م لمهاجمة البرتغاليين بمسقط أقوى مناطق تحصيناتهم، فالتقى الجيشان في (معركة طوي الرولة) والتي حسمها الجيش العماني بقيادته، فالشيخ مسعود النبهاني كان معروفا جدا بشجاعته مما جعله قدوة لرجاله وهو يتقدمهم في هذه المعركة يدك البرتغاليين ويضطرهم للانسحاب صاغرين نحو قلعتي الجلالي والميراني يترقبون معارك قادمة ستنال منهم عما قريب.
في ذات الوقت قرر الإمام ناصر بن مرشد التخلص من خصمه المتحالف مع البرتغاليين مانع بن سنان والذي هرب من الداخل متحصنا بالقوة البرتغالية ناحية صحار، فوجه إليه قائده المحنك ( مداد بن هلوان ) والذي بدوره استطاع استدراج مانع ناحية لوى حتى تمكن منه وقتله بقيادة الشيخ ( حافظ بن سيف الهنوي) والي لوى لتتخلص البلاد بذلك من أخطر تحالف برتغالي مع معارضي الإمام.
وبعد أن أصبحت أجزاء كبيرة من صحار بيد العمانيين وجه ابن مرشد جيشه هذه المرة نحو جلفار(رأس الخيمة) لإنقاذ أهلها وتطهيرها من البرتغاليين والفرس في آن واحد لتعود تحت ظل الحكم العماني كأهم قاعدة عسكرية للعمانيين في الشمال، فتوجه الجيش برا إليها بقيادة الشيخ ( علي بن أحمد العلوي النزوي ) والذي واجه تحالفا برتغاليا فارسيا ضده، ولكنه وأصحابه الفدائيين قرروا عدم ترك جلفار إلا بعد تحريرها نهائيا من الغزاة، فحاصروها واستمرت الحرب بينهم طويلا حتى تمكنوا من تحريرها لتعود المدينة تحت قبضة الإمام ناصر بن مرشد والذي جعل عليها مباشرة بعد هذا الإنتصار الشيخ (عبدالله بن محمد العنبوري) واليا يحكم جلفار وما حولها ويضمن حمايتها من أي اعتداء.
هذا الإنتصار للعمانيين استبشروا به خيرا فواصل الإمام ناصر بن مرشد إرسال قادته لتحرير بقية مدن عُمان فعين ( خميس بن مخزوم ) ليقود الجيش ويتجه نحو مسندم وتحديدا مدينة دبا والتي وبعد معارك بطولية هزم فيها البرتغاليون الذين طلبوا الصلح مقابل خروجهم من قلعة دبا، فقبل هذا القائد الصلح بعدما أذاقهم شر هزيمة ليتمكن من بسط نفوذ الدولة العمانية في مسندم.
في هذه الأثناء أعاد البرتغاليون تنظيم قواتهم في صحار، وما أن علم الإمام بذلك حتى وجه إليهم جيشه بقيادة والي لوى الشيخ ( حافظ بن سيف الهنوي ) وأنزل بالبرتغاليين هزائم متتالية وخاصة في ( معركة البدعة ) عام 1633م، ولم يتبق للمستعمرين سوى بعض التحصينات القليلة جدا بساحل صحار حتى انسحبوا منها نهائيا بعد حصار شدد الخناق عليهم فاستسلموا وطلبوا الصلح، ورغم إجرامهم إلا أن العمانيين تعاملوا معهم بأخلاق الحرب ومبادئ الأخلاق الإسلامية فتم تأمين حياتهم وعدم التعرض لهم ولا لجرحاهم ليذهب الكثير منهم إلى مسقط آخر معاقلهم التي كان العمانيون يهاجمونهم فيها ببوشر ومطرح ومسقط القديمة بذات التوقيت بقيادة الشيخ ( خميس بن سعيد الشقصي ) ومن معه من الأبطال الذين استشهد الكثير منهم من أجل عُمان قاطبة.
أما قلهات وصور وقريات فقد حرص الإمام ناصر على تحريرها فبعث إليهم قائده ( بلعرب بن مانع الإسماعيلي ) الذي استطاع بقواته أن يوقع الهزائم المتتالية بالبرتغاليين في معارك دامية كانت نتائجها لصالح أجدادنا عام 1634م.
لم يكتف الإمام بذلك، فقد جهز جيشا كبيرا بقيادته ومعه رفقاء الجهاد ( محمد بن سيف الحوقاني ) و ( عمر بن مسعود الرستاقي ) و ( راشد بن سالم بن بروم ) وما أن وصلوا لمسقط والجيش يرى بأن حاكم عُمان يتقدمهم بدرعه وسلاحه يقاتل هذا العدو معهم حتى استطاعوا سويا بعد معارك دامية تخليص روي وما حولها من البرتغاليين الذين لم يبق لهم إلا مسقط القديمة متحصنين بقلاعهم الجلالي والميراني وبعض الحصون خائفين يطلبون من الحكومة البرتغالية دعم قواتهم من أجل مواجهة الضربات العمانية.
عاد الإمام بعدها إلى نزوى مقر حكمه وترك قواته تتمركز في مسقط تحاصر البرتغاليين لمحاولة تطهير البلاد نهائيا منهم، فكان قادته ( مسعود بن رمضان النبهاني ) و ( سلطان بن سيف بن مالك اليعربي ) وتحديدا منذ عام 1648م يواصلون ضرب البرتغاليين والسيطرة على جل تحصيناتهم واسلحتهم وتدمير مواقعهم حتى طلب العدو الصلح وإيقاف الحرب، فوافق العمانيون على ذلك وتم ابرام معاهدة وقعها من الجانب البرتغالي (جيل اينيش دي نورنها) في عام 1648م.
وعلى كل حال فقد تم تحرير مسقط نهائيا من البرتغاليين بعد وفاة الإمام ناصر بن مرشد اليعربي خاصة حينما تولى ابن عمه ( سلطان بن سيف اليعربي ) حكم عُمان بعد انتقال سلمي للحكم وبمبايعة علماء عمان له من أهل الحل والعقد ليواصل مسيرة الجهاد التي تكللت فيها الجهود مع قادته لطرد البرتغاليين من مسقط نهائيا في معركة عام 1650م بعد أن سقط المئات من الشهداء في تلك الليلة التي استولى فيها العمانيون على قلعتي الجلالي والميراني المجاورتين حاليا لقصر العلم، لتشهد هذه الساحة (ساحة الشهداء) بطولات العمانيين كالعملية الفدائية التي ترأسها الشيخ (مسعود بن راشد التوبي المغيوثي) والذي قاد فرقة من العمانيين لإغراق اضخم بارجتين حربيتين للبرتغالين وقت تحرير مسقط وتمكنوا من اغراقها ليلا وبأسلحة تقليدية بعدما كانت تقصف المجاهدين المتمركزين بالجلالي والميراني في آخر معركة بعُمان ضد المحتل.
ومنها واصل أهل عُمان جهادهم في الخليج العربي والهند وأفريقيا ضد البرتغاليين لدحرهم وحماية الشعوب والمسلمين وقوافل الحج من إجرام هؤلاء المستعمرين.
المرجع :
- الدور السياسي لعلماء عُمان، د.موسى بن سالم بن حمد البراشدي، الطبعة الأولى 2019م، الجمعية العمانية للكتاب والأدباء، مسعى للنشر والتوزيع.
- المقاومة العمانية للوجود البرتغالي في الخليج العربي والمحيط الهندي (1507-1698م)، أحمد بن حميد بن الذيب التوبي، بيت الغشام للصحافة والنشر والتوزيع - سلطنة عُمان.