محمد بن محفوظ العارضي
عند الحديث عن الاقتصاد غير الرسمي، يتحتم ذكر ذلك الخط الفاصل بين التصور العام لكونه مظهراً من مظاهر الفوضى وعدم التحضر، من جهة، وبين النظرة العملية الثاقبة للثروات، التي يشملها هذا الاقتصاد، من جهة أخرى.
ذلك الخط الفاصل هو ما يُدعى بالنظم الإدارية الناجحة.. نقطة التحول الحقيقية التي تجعل من الاقتصاد غير الرسمي ثروة بدلاً من كونه عبئاً هي التوجه نحو ممارسات إدارية صحيحة. ولطالما توفرت إمكانات تحقيق قفزات اقتصادية هائلة في عدد من الدول العربية، من خلال إدارة الاقتصاد غير الرسمي كما يجب، ولكن تلك الفُرص لم تُستغل بعد.
والمعادلة هنا على النحو التالي: الاقتصاد غير الرسمي يلبي احتياجات السوق ويتيح فرص العمل وكسب العيش، ولكن لا يجوز أن يبقى كما هو لاعتبارات عديدة، أبرزها عدم الامتثال الضريبي وكونه مجهولاً من حيث الحجم والموارد ومدي مطابقة المعايير القانونية والصحية وغيرها من شروط العمل التجاري التي تتطلب إحصاءات ومتابعة مستمرة من قبل الحكومة.
الاقتصاد غير الرسمي مخفي عن سجلات السلطات العامة لأسباب قد تكون مالية أو رقابية أو مؤسسية.. تلك هي المعضلة الأساسية التي أدت إلى توجه سياسات التعامل معه إلى تقييده ومحاربته عوضاً عن تحويله إلى مشاريع رسمية تخدم النمو الاقتصادي وتعكس حجم التجارة الداخلية الحقيقي وتراعي حقوق العمالة.
والمفارقة الحقيقية هي أن أغلبية أصحاب المشاريع الصغيرة غير الرسمية قادرين على تحويل مشاريعهم إلى مشاريع رسمية حال تلبية الجهاز الإداري لاحتياجاتهم. ويكمن الحل في اعتماد النظام الإداري لأفضل سبل دمج المشاريع غير الرسمية في الاقتصاد الرسمي.
قطعاً لا يجوز الاستغناء عن توفر المعايير والمؤهلات القانونية والصحية والمادية في الأعمال التجارية، ولكن تواضع العمل التجاري لا يتعارض مع تلك الاعتبارات، خصوصاً إذا ما تم دعمه بالفكر الابتكاري. ولأن العمل التجاري غير الرسمي غالباً ما يكون بسيطاً، فلابد من أن تكون إجراءات تسجيله واعتماده بذات البساطة.
إنها البيروقراطية.. تعقيد الإجراءات والشروط هو ما حفز الالتفاف على الاقتصاد الرسمي، وذلك بالرغم من أننا نعيش في عصر لا يبرر وجودها مع كل التطورات التكنولوجية التي يسهل استعمالها على الجميع، فمثلاً الخدمات الحكومية التي تتطلب إجراءات كدفع الفواتير وتوثيق المستندات يمكن أن تتوفر بكل سهولة لأي شخص لديه اتصال بشبكة الإنترنت.
ثم هناك مسألة سوق الائتمان التي تطرح تساؤلات حول مدى التزام البنوك والمؤسسات المالية الرسمية بتشجيع الشمول المالي، فلا بأس بعمليات الاقتراض الواسعة بين الأفراد وبعضهم البعض طالما يتم تسجيلها، وهي في حد ذاتها مقبولة وذات جدوى، ولكن التداين غير الرسمي على نطاق واسع قد يكون مؤشراً على قصور خدمات مؤسسات القطاع المالي الرسمي.
أما الأنظمة الرقابية وقوانين العمل التي دفعت بالأفراد إلى الاقتصاد غير الرسمي لأنها لم تتمكن من مواكبة المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية، فهي تعتمد بشكل كبير على مدى رشاقة مؤسسات النظام الإداري. وبالطبع، القدرة على التحرك بسرعة وسهولة لملاحقة المتغيرات ليس عاملاً يتوفر لأي دولة، ولا بأس في ذلك لأن المرونة مسألة نسبية لا تُقاس بمدى كفاءة الجهاز الإداري فحسب، بل تنضوي على اعتبارات كحجم الاقتصاد والكثافة السكانية والنظام السياسي وغيرها، لذا يجب أن تبحث استراتيجات الدولة عن أكبر قدر ممكن من المرونة.
ولا غنى بالطبع عن ضبط المنظومة الضريبية بما يتناسب مع حجم الاقتصاد غير الرسمي في الدولة. قد يكون الحل في إعلان الإعفاءات الضريبية لمدة معينة أو وعي المواطنين بوجود استثمارات ناجحة في أموال الضرائب أو تعديل ممارسات التحصيل.
والأهم من هذا كله هو نشر الوعي.. جزء كبير من حل عملية التحول يقع بين أيدي أصحاب المشاريع ووعيهم بأن ارتفاع مستواهم المعيشي مرتبط بتسجيل مشاريعهم رسمياً. البيانات والإحصاءات ودلائل المشروعية والمتابعة الرقابية هي ما تقرر مدى اهتمام المستثمرين بالعمل في الدولة وإمكانية ضمان حقوق العمال وحجم فرص تطور المشاريع ونموها ورفع الإنتاجية ووجود المنافسة العادلة، وبالتالي إمكانية تحقيق الرخاء والنمو الاقتصادي.
لا بد من أن يستوعب العاملون في القطاع غير الرسمي، جنباً إلى جنب مع الدولة، أن هذا القطاع لا يوفر سوى علاج غير مستدام لمشكلة الباحثين عن عمل وإنتاجية منخفضة للسوق، ولكن إمكانيات دمجه هي ما تجعله ثروة دفينة يمكن استخراجها بسهولة ما إن عبرنا الخط الفاصل.
رئيس مجلس الإدارة التنفيذي في إنفستكورب، رئيس مجلس إدارة بنك صحار