زاهي وهبي
أول من أمس طبعت "الاندبندنت" البريطانية العريقة آخر أعدادها الورقية، الخميس المقبل تُصدِر السفير اللبنانية عددها الأخير وتطوي صفحاتها الورقية والإلكترونية معاً. ثمة عصر بكامله يودعنا مع وداع الصحف الورقية التي تقفل تباعاً، قد يستغرق الأمر بضعة سنين أخرى قبل أن تُسدَل الستارة نهائياً، ثمة أجيال ناشئة ليست على علاقة بالحبر والورق ولا يسكنها الحنين الذي يسكن أجيالنا الى حفيف الصفحات وروائحها الفاتنة، شاشات اللمس الذكية تحتل الصدارة والصفحات الافتراضية لا يعلق من حبرها شيء على أطراف الأنامل، المستثمرون والمعلنون ذهبوا الى صفحات الافتراض الأكثر ربحية، القرّاء باتوا يجدون ضالتهم في الهواتف المحمولة بين أيديهم. وكل ما ودعنا صحيفة ورقية نودِّع جزءاً من أعمارنا وذاكرتنا. هنا تحية لجريدة "السفير" كتبتها قبل عامين لمناسبة عيدها الأربعين ولم أنشرها، اليوم أظن نشرها مناسباً كمن يلقي نظرة وداع على جثمان حبيب يوارى ثرى الغياب:
كنّا فتياناً يافعين يوم كانت جريدة "السفير" خبزنا اليومي، علق حبرها بأطراف أناملنا الطرية، تغلغلت رائحة ورقها في ثنايا ذاكرتنا، حفظنا غيباً أسماء كتّابها ومحرريها، يوم حلّ ناجي العلي ضيفاً استثنائياً على صفحاتها صار حنظلة أيقونة نحتمي بها من صقيع التخاذل والنسيان، ظلّت فلسطين بوصلة الجريدة التي رفعت شعار "صوت الذين الذين لا صوت لهم" وغدت رفيقتنا في السراء والضراء،نقرأها في الملاجىء والمتاريس، في المقاهي والأرصفة، وأحياناً على ضوء الشموع في وطن لم تكتمل "اضاءته"حتى الآن!
هل نجحت "السفير" في التماهي مع شعارها وهل كانت حقاً ودائماً صوتاً للمظلومين والمستضعفين والفقراء، لعلها فعلت في أغلب الأوقات، والأهم أنها في المحطات المصيرية واللحظات المفصلية، لم تفقد بوصلتها حتى حين اضطرت لكتابة كلمتها بالدم لا بالحبر، فما تعرضت له الصحيفة اللبنانية الناشئة في زمن الحروب اللبنانية لم يكن هيناً ولا قليلاً ولعل بعض المخاطر تنوء بحملها الجبال فما بالك بالأقلام، ومع ذلك ظلَّ طلال سلمان "على الطريق"، لم يتعب ولم يسأم ولم تنل منه رصاصات الغدر ولا علامات الشيب التي تسللت الى الرأس والصدغين، شاب الرجل ولم تشب أحلامه ولا يزال قلمه أكثر فصاحةً من لسانه، شجاعته متشحة بغلالة من خفر وصوت خفيض، وها هو في أربعين سفيره الأولى يحلم بأربعين ثانية ويدعونا لكتابة أحلامنا التي نشتهي أن تمسي حقيقية بعد أربعة عقود على صفحات ورق مهدد بالانقراض.
دارت الأيام، تغيرت الأحوال، انفخت الدف وتفرق عشّاق كثيرون وظلت "السفير" على عهد قرائها بها، ارتبكت أحياناً، شردت قليلاً، تعثرت، كبَت، لكنها كانت دائماً تعرف كيف تنهض من كبوتها لتواصل أحلامها المشروعة بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ولتظل نصيرة الفقراء والمظلومين رغم تعالي أصوات من هنا وهناك معتبرةً الانحياز للفئات المسحوقة "دقةً" قديمة مبشرةً بنيوليبرالية متوحشة تأكل الأخضر واليابس.
أربعون عاماً ولا يزال عود "السفير" أخضر طرياً، خرّجت أجيالاً من كتّاب وصحافيين توزعوا شرقاً وغرباً، يميناً ويساراً بحثاً عن أحلام أخرى أو مستجدة، اذ نادراً ما نجد صحيفة عربية لم تستقبل واحداً أو أكثر من أسرة "السفير" حتى صار صحافيوها سفراء فعليين للصحافة اللبنانية في الصحافة العربية، ومع تقاعد أجيال أوذهابها كلّ الى حلمه أو موقعه الجديد والمختلف كانت "السفير" تعرف كيف تستقطب أجيالاً جديدة من الشباب سرعان ما يصيرون نجوماً على صفحاتها قبل أن ينبت ريشهم ويطيروا الى فضاءات جديدة.
تتفق مع "السفير" أو تختلف ليس هذا المهم، الاختلاف أصلاً ظاهرة صحية وضرورية، المهم أن الجريدة التي شاء حظها أن تنطلق عشية الرصاصات الأولى للحروب اللبنانية المتناسلة عرفت كيف تبتكر معادلة الحفاظ على مهنيتها وفي الوقت نفسه الانحياز الى ما تؤمن به من قضايا وفي مقدمتها قضية فلسطين المحتلة وحق شعبها المشروع بالتحرير والعودة، وحق اللبنانيين في مقاومة المحتل الاسرائيلي وعدوانيته الدائمة، تلتزم خطها ونهجها من دون أن تقصي الآخرين أو تلغيهم أو تعزلهم وتفسح صفحاتها لكتابات وكتّاب يقفون على طرفي نقيض.
لا تكتمل كتابة عن "السفير" ولا عن مؤسسها وناشرها طلال سلمان الذي يمكن وصفه بالأديب بين الصحافيين، والصحافي بين الأدباء من دون اشارة الى دورها الريادي في المجال الثقافي واحتضانها لعشرات المثقفين اللبنانيين والعرب الذين عبروا مكاتبها أو صفحاتها ومعظمهم كان هارباً من عسف احتلال باطل أو ظلم حاكم جائر فوجدوا فيها ضالتهم وصوتهم الذي ظل أقوى من أصوات الجلادين وأسواطهم.
ما تقدم ليس نقداً لأربعين من عمر "السفير" وتجربتها، للنقد شروط أخرى، هذه مجرد تحية على عتبة أربعين مضت وأربعين مقبلات عساها تكون سماناً بكل ما يثري الأحلام التي لا نزال نلهث وراءها وتركض أمامنا في بلاد تضيق كثيراً بأحلام بنيها، وقد يكون حلماً ديناصورياً أن نتمنى بقاء الصحافة الورقية على قيد الحياة والنشر بعد أربعين من الآن.فمن يدري حقاً شكل الصحافة والاعلام بعد أربع سنوات لا أربعة عقود باتت من فرط سرعتها تحمل في جعبتها ما يحدث في أربعة قرون، المهم أن تبقى "السفير" حينها على قيد الحلم والكتابة والنشر والانحياز لقضايا الحق والعدالة، ولا بأس ان شابت رؤوس صانيعها، الأهم ألا تشيب أحلامها أبداً".
لم يكن مجرد حدس وصفنا حلم "السفير" بأربعين سنة أخرى بالديناصوري، كانت قراءة لما يطرأ من مستجدات، المفارَقة أن "السفير" التي أطلقت قبل سنتين في مناسبة عيدها الأربعين حملة إعلانية ضخمة تحت شعار اكتب حلمك لأربعين سنة مقبلة لم تكمل بعد سنتين من أربعينها أربعين شهراً، ما يكشف لنا حجم الهوة بين المرتجى وواقعه، وتعطينا فكرةً عمّا ينتظرُ الحبر والورق.