قبرص - وكالات
في قبرص المنقسمة منذ العام 1974، يسعى مواطنون من شطري الجزيرة إلى إعادة إحياء عشرات المعالم المسيحية والمسلمة والتراثية التي تضررت نتيجة النزاعات عبر التاريخ والإهمال، في محاولة لترميم علاقاتهم المتصدّعة منذ عقود. بين كنائس أرثوذكسية وأخرى مارونية وأرمنية، مساجد ومآذن، حمامات عامة، حصون وأسوار، طواحين وقنوات لجرّ المياه، تنوّعت المعالم الأثرية والدينية التي رممتها اللجنة الفنية المشتركة للإرث الثقافي في قبرص خلال عشر سنوات وبلغ عددها أكثر من خمسين منتشرة في كل أنحاء الجزيرة، وذلك برعاية برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
في فاماجوستا، المدينة الواقعة في الشطر الشمالي من الجزيرة، ترى الشاعرة روحسان إسكيف أوجلو (34 عاماً) أن المشروع «يوجِد تواصلا والتواصل يعني أن نفهم بعضنا البعض وتفكير الآخر ومعتقداته». ويقع عدد كبير من المعالم التي شملها الترميم في فاماجوستا التي أُسست بين عامي 285-247 قبل الميلاد، بحسب مؤرخين، وعرفت حضارات عديدة على مرّ العصور جعلت منها متحفاً في الهواء الطلق.
عند أحد مداخل المدينة الرئيسية «لاند جايت»، يتجوّل سياح في حصن «رايفلن» الذي أُعيد افتتاحه في يونيو بعد ترميمه، وهو واحد من مجموعة حصون تشكّل جزءا من أسوار المدينة التي يعود تاريخها إلى القرن الرابع عشر. وقد تضرّر في العام 1571 خلال الحروب العثمانية. ثم سقط في غياهب النسيان. وحال الانقسام في العصر الحديث دون الاهتمام به.
ترميم لتاريخنا
وتشرف على مشروع الترميم الضخم اللجنة الفنية المشتركة المؤلفة من 12 عضواً، ستة من بينهم يعيّنهم الرئيس القبرصي نيكوس أناستاسيادس وستة آخرون يعيّنهم الزعيم القبرصي التركي مصطفى أكينجي. ويموّل الاتحاد الأوروبي الجزء الأكبر من المشروع، وتشارك في التمويل مؤسسات محلية ومنظمات غير حكومية. وبلغت مساهمة الاتحاد الأوروبي حتى الآن 14.7 مليون يورو. ويرى أمين سرّ اللجنة من الجانب القبرصي اليوناني جون كاريس أن «ترميم المعالم الأثرية هو مشروع حيوي لأنه يجمع الناس (...) القبارصة اليونانيون والقبارصة الأتراك يلتقون حول المعالم». ويضيف أن «قيمة هذا المشروع عدا عن ترميم المباني، تكمن في أنه ترميم لتاريخنا».
وانتهت مؤخراً في فاماجوستا أعمال ترميم كنيسة سانت آن (القديسة حنّة) المارونية ومسجد الدباغين. ويعود تاريخ الكنيسة إلى أوائل القرن الرابع. وهي في الأصل كنيسة كاثوليكية لاتينية أُعطيت إلى الموارنة في القرن الرابع عشر.
وأطلقت تسمية «الدباغين» على المسجد المجاور الذي كان في الأصل كنيسة قبل حقبة الحكم العثماني (1571-1878)، لأن دباغي المدينة المسلمين كانوا يقصدونه للصلاة، بحسب الرواية الشعبية. إذ إن عمل هؤلاء الدباغين كان يجعل رائحتهم كريهة، فكانوا يفضلون الصلاة في كنيسة صغيرة قريبة منهم بدلاً من أن يقصدوا مسجدا كبيرا ومكتظا والتسبب بإزعاج للآخرين.
ويرتفع باب المسجد الغربي المرمم على شكل نصف دائرة من الأعلى ويمزج بين الأنماط الهندسية الفرنسي القوطي والبيزنطي والأرمني.
مستقبل أفضل
ومن المواقع التي تم ترميمها في الشطر الجنوبي، مسجد في بلدة ذينيا الواقعة في المنطقة العازلة بين شطري قبرص، إلا أنها تابعة إداريا لقضاء نيقوسيا.
وتتوسط المسجد حديقة صغيرة زُرعت فيها شجرة زيتون ترمز إلى السلام. وهو أحد المعالم النادرة المتبقية من الحقبة العثمانية في منطقة نيقوسيا. ويروي عدد من رجال القرية وهم يحتسون القهوة في جواره، أنه بُني بحجارة كنيسة القديسة كاثرين المجاورة بعد أن دمّرها العثمانيون خلال اجتياحهم لقبرص العام 1571. وغادر القبارصة الأتراك ذينيا في 1963 بعد اندلاع النزاع بين شطري الجزيرة وعادوا لزيارتها العام 2003، في إطار سلسلة خطوات تقارب بين الجانبين.
وانتهت أعمال ترميم المسجد التي دامت عامين وبلغت كلفتها حوالي 123 ألف يورو في 2014. ولا تضم البلدة حاليا مسلمين، ويبلغ عدد سكانها الحاليين القبارصة اليونانيين المسيحيين حوالي 500 نسمة.
وتقول ميلتيم اونوركان ساماني، مستشارة الشؤون السياسية والتاريخ في رئاسة «جمهورية شمال قبرص التركية»، لفرانس برس إن «أعمال الترميم مهمة لكن الأهم هو ترميم الجراح التاريخية».
داخل سياج خشبي، يقود مسار قصير إلى باب كبير يشكل مدخل المسجد المؤلف من غرفة واحدة فارغة، في عمقها رسم جداري إسلامي لم يبقَ إلا جزؤه الأعلى. إلى جانب الرسم طاولة مغطاة بقماش أبيض وُضعت عليها نسخ من القرآن بلغات عدة ولوحة طُبع عليها مقتطف من قصيدة للشاعر التركي يونس إمري يقول فيها «الكراهية هي عدوي الوحيد».
ويقول الرئيس القبرصي التركي للجنة علي تونكاي لفرانس برس «نعمل مع بعضنا البعض ونوجِد أملاً جديداً للناس الذين يعيشون على هذه الجزيرة من أجل مستقبل أفضل». ويتابع «بعض الأصدقاء يقولون إننا نموذج مصغّر عن مستقبل قبرص».