إعداد - نصر البوسعيدي
nser55@hotmail.com
كم من الأحزان والآلام التي أصابت الأمة العمانية في مختلف العصور والأزمان، فتاريخ عمان كان يمر بفترات عصيبة جدًا في مراحل كانت مفصلية وتسببت في ضعف البلاد واحتلال موانئها من قبل البرتغاليين في العصر الحديث، في الوقت الذي انشغل فيه أهل عمان بصراعاتهم الداخلية وحروبهم الأهلية من أجل السلطة.
كان القوي فيها يهضم حق الضعيف وكانت مقسمة مجزأة بالولاء وبالأرض، وكل فئة من الناس لها قائدها في بقعته الجغرافية التي يحكمها، فكانت بهلاء مثلا لسيف بن محمد الهنائي، ونزوى لسلطان بن محسن النبهاني، وسمائل لمانع بن سنان العميري، وسمد الشأن لعلي بن قطن الهلالي، وإبراء لمحمد بن جيفر الجبري، وصور وقريات ومسقط وسواحل الباطنة وصحار بيد البرتغاليين، أما نخل والرستاق فكانت لسلطان بن أبي العرب، وينقل وحصونها كانت بيد ناصر بن قطن.. والخ، وظل هذا الحال لسنوات طويلة لم ينعم فيها أهل عمان بالأمان والاستقرار.
وبعد برهة من الزمن اجتمع عقلاء وحكماء عُمان من أجل البلاد ووحدتها مهما كان الثمن بقيادة أكثر من 40 عالما عمانيا يتقدمهم العلامة خميس بن سعيد الشقصي، والشيخ القائد مسعود بن رمضان النبهاني السمدي النزوي، والعلامة صالح بن سعيد الزاملي النزوي العقري، والشيخ خميس بن رويشد المحروقي، والشيخ عبدالله بن محمد بن غسان وغيرهم من أكابر القوم في الرستاق، فوقع اختيارهم على ذلك الشاب الجليل ناصر بن مرشد اليعربي سليل ملوك الرستاق وما حولها حيث أن حاكم الرستاق يومها هو جده مالك بن أبي العرب اليعربي.
كان الإمام ناصر يتيما وقد تزوج والدتَه الشيخُ المتقدم ذكره خميس بن سعيد الشقصي وهو الذي كان يشرف على تربيته، لذا فقد رشحه بأن تتم بيعته ليحكم عمان لصفات قيادية وأخلاقية كثيرة يتمتع بها. فرضي الجميع على ذلك وتمت مبايعة ناصر بن مرشد إماما وحاكما على عمان ليوحدها ويسير نحو ترسيخ الوطنية وإنهاء سلطة المشيخات والشتات الذي حل في كل جزء من البلاد.
وعلى ذلك تم اختياره إمام عمان وحاكمها في عام 1024هـ - 1615م بالرستاق وأقام في قرية قصرى، لتبدأ أول حملاته لتوحيد البلاد هو وأفراد جيشه القادمون للتغيير من أجل مستقبل أفضل، فهاجموا قلعة الرستاق التي كانت بحوزة أبناء عمه ليلا ليسيطروا عليها وينهوا سلطة من كان يحكمها وتم لهم ذلك وأصبحت الرستاق تحت سلطة حكومة الإمام، بعد ذلك توجه للسيطرة على نخل التي كان يحكمها عمه سلطان بن أبي العرب وبعد حصارها لمدة عام كامل ومعارك كر وفر استسلم عمه ومن معه لتسقط قلعتها بقبضة العهد الجديد وتصبح نخل تحت سلطة الدولة.
وحينما رأى أهل نزوى نجاح الإمام ناصر بن مرشد في القضاء على سلطة أقربائه دون مجاملتهم من أجل عمان في الرستاق ونخل، طلبوا منه القدوم إلى نزوى وضمها لحكمه، فطلب منهم المساعدة والعون فعاهدوه على ذلك، ليتحرك بعدها متجها إليهم عن طريق الجبال الوعرة هو وأصحابه، فوصل إلى عقر نزوى ووجد الأهالي وقد رحبوا بحاكمهم الشاب ليعلنوا الولاء له ولوحدة عمان وتبعهم أهالي إزكي ومنح في ذلك، رغم محاولة بعض الكارهين لقيادة التمرد بنزوى ضد الإمام الجديد ومحاولة اغتياله غدرا وهو ذاهب إلى صلاة الجمعة، فتم كشف مخططهم وهرب أغلبهم، فلجأ بعضهم لحاكم سمائل مانع بن سنان وبعضهم لحاكم بهلاء سيف الهنائي الذي أعلن الحرب ضد الإمام ورفضه الانضمام لدعوات وحدة البلاد وبعد معارك وقتلى بين جيش التغيير وصاحب بهلاء سقطت المدينة بيد سلطة الإمام.
أما سمائل فقد هاجمها الإمام ليخلصها من قبضة التمرد الذي كان يقوده مانع بن سنان الذي وبعد معارك عدة كانت لمصلحة الإمام هرب إلى صحار ومن ثم إلى دبا وجلفار يطلب من البرتغاليين العون للقضاء على هذا الحاكم الشاب ناصر بن مرشد، لذلك فقد غضب عليه الكثير من أهل عمان لخيانته العظمى وتعاونه مع البرتغاليين، فأرسل إليه الإمام قائده مداد بن هلوان الذي استطاع ملاحقة مانع واغتياله بعد أن دبر له مكيدة محكمة في لوى.
من ناحية أخرى جهز الإمام جيشه بقيادة الشيخ مسعود بن رمضان النبهاني لإخضاع مدن الشرقية، فتوجه الجيش إلى سمد الشأن التي كانت بحوزة علي بن قطن الهلالي وبعد معارك وقتلى سقطت بيد الإمام وهرب ابن قطن، ومن ثم توجه رجال الإمام لإخضاع إبراء واستطاعوا هزيمة من كان يحكمها وهو محمد بن جيفر وأصبحت كل الشرقية بقيادة السلطة العمانية الموحدة بقيادة ناصر بن مرشد ما عدا صور وقلهات والمدن الساحلية التي كانت بحوزة البرتغاليين.
بعد ذلك توجه الإمام بجيشه إلى الظاهرة واستطاع بعد معارك عدة أن يسيطر على وادي فدى ويبني فيها حصنه المنيع بعد تعاون أهل ضنك معه بقيادة شيخهم المناصر للإمام العالم خميس بن رويشد، ولكن التمرد كان كبيرا فزعماء بقية مدن الظاهرة أعلنوا التمرد بقيادة ناصر بن قطن والجبور واضطر الإمام ناصر بن مرشد أن يقود الجيش بنفسه لمحاربتهم وتوحيد عمان في هذا الجزء المهم من البلاد، فالتقى الجيشان في منطقة الغبي ووقعت معركة عظيمة استشهد خلالها شقيق الإمام واسمه جاعد بن مرشد اليعربي والكثير من الرجال الأوفياء، ورغم كارثية ضحايا هذه الحرب والتي كان يدفن فيها القتلى بالسبعة والثمانية في قبر جماعي واحد إلا أن الإمام ببسالته وعزيمة رجاله استطاع الانتصار ليخضع عبري وبعض مدن الظاهرة تحت سلطته بعد أن تخضبت الأرض بالدماء وهروب قائد التمرد ناصر بن قطن إلى شمال عمان وبعدها إلى الأحساء بعدما خسر جميع معاركة مع الإمام والتي ذهب ضحيتها الكثير.
وبعد ذلك جهز الإمام خمسة من قادته لإخضاع مدن شمال عمان لحكم الدولة العمانية ووحدتها، فبعث جيشه بقيادة عبدالله بن محمد بن غسان، وخميس بن رويشد الضنكي، وحافظ بن جمعة الهنوي، ومحمد بن علي الرستاقي، ومحمد بن سيف الحوقاني، فوصلوا أولا إلى البريمي وأصبحت بعد عدة معارك تحت سيطرة جيش الإمام، وبعدها توجه الجيش إلى لوى التي كانت تحت سلطة سيف بن جيفر الذي انهزم بعد تعاون أهالي لوى مع جيش الإمام لراية عمان، بعد ذلك طلب صاحب لوى من البرتغاليين في صحار إنقاذه وبالفعل وصله المدد من البرتغاليين وتقارعت الجيوش التي سقط فيها عدد كبير من الشهداء وانتهت في الأخير بسقوط لوى بعد 6 أشهر من الحروب والحصار ليسلم قائدهم حصنها بعدما طلب الأمان فأمنه جيش الإمام وخرج من لوى دون رجعة.
في هذه الأثناء وبعدما علم الإمام ناصر بن مرشد بانتصارات جيوشه في البريمي ولوى، بعث قائده مسعود بن رمضان النبهاني النزوي العقري إلى مسقط التي كانت تحت سيطرة البرتغاليين، وأول معركة دارت بين البرتغاليين والجيش العماني في مطرح وتحديدا في منطقة طوي الرولة، فانتصر العمانيون بقائدهم مسعود بن رمضان وهدموا الكثير من التحصينات التي كانت للبرتغاليين وقتلوا منهم جنودا كثر بعدما سقط كذلك الكثير من الشهداء من أهل عمان، وعندها طلب البرتغاليون الصلح والهدنة اشترط جيش الإمام على البرتغاليين أن يرجعوا أموال أهالي صحار التي تم نهبها، وأن يدفعوا الجزية في كل عام، وألا يتعرضوا لأي مسلم في مسقط، ليبقى فقط للبرتغاليين حصنا الجلالي والميراني كآخر معقل لهم.
بعد ذلك أمر الإمام نفس قائده مسعود بن رمضان النبهاني أن يتوجه إلى جلفار باب عمان الغربي الشمالي ليخلصها من الفرس والبرتغاليين، ولما وصل الجيش العماني لجلفار التحمت الجيوش وسالت الدماء وسقط الشهداء من أهل عمان، ورغم استمرار القصف البرتغالي للجيش العماني بالمدافع من على حصونهم استطاع العمانيون اقتحام حصونهم لرفع الراية العمانية بعد سقوط مئات من الشهداء ليستولوا على الحصن وأبراجه بعدما مزقوا القوات البرتغالية والفارسية وتتالى سقوط معاقلهم في جلفار بفضل شجاعة وحنكة القائد مسعود بن رمضان والدهامش وخميس بن محزم ومن معهم حتى تم تطهير جلفار نهائيا من الاستعمار البرتغالي لتعود وأهلها وما حولها آمنة في حضن الوطن والسيادة العمانية بقيادة ناصر بن مرشد اليعربي.
وبعد ذلك وجه الإمام جيشه القابع في لوى مع التعاون التام من أهالي صحار لطرد البرتغاليين، فتوجه الجيش إلى صحار بقيادة حافظ بن سيف ومداد بن هلوان سنة 1043هـ، وفي منطقة البدعة كانت المعركة الكبرى بين أهل عمان والبرتغاليين، سقط من خلالها الشهداء وقتلى كثر من البرتغاليين الذين طلبوا في الأخير الصلح وتوقف الحرب شريطة جلائهم من أغلب سواحل صحار.
ومن بعد معارك صحار بعث الإمام ابن عمه سيف بن سلطان اليعربي للسيطرة على صور وتطهيرها من البرتغاليين فكانت هناك معركة كبيرة تعاون فيها الأهالي مع جيش الإمام لطرد الغزاة البرتغاليين وتم لهم ذلك بعدما قدمت صور كباقي المدن العمانية شهداءها.
وبعد ذلك وجه الإمام جيشه مرة أخرى بقيادة مسعود بن رمضان النبهاني واستطاع بفضل شجاعته وشجاعة رجاله طرد البرتغاليين من قريات لتصبح كل السواحل العمانية تحت قبضة الجيش العماني والإمام إلا أجزاء بسيطة من مسقط وصحار.
ويستمر الإمام ناصر بن مرشد اليعربي وقادته ورجاله الشجعان بالعمل باستمرار لتوحيد عمان والسير نحو الوحدة الوطنية بعد حروب وشتات لتوافيه المنية ويرحل عن دنياه في يوم الجمعة في سنة 1050هـ - 1640م، ليحفظ لنا التاريخ سيرة حاكم عماني شجاع غيّر مجرى التاريخ وعمل جاهدا طوال فترة حياته لوحدة عمان تحت كيان دولة وسلطة واحدة.
المرجع: السيابي، سالم بن حمود بن شامس، عُمان عبر التاريخ ج3-4، الطبعة الخامسة 2014م، وزارة التراث والثقافة - سلطنة عُمان.