بكين وترامب..من الخاسر؟

مقالات رأي و تحليلات الخميس ٢٧/سبتمبر/٢٠١٨ ٠٣:١٥ ص

أناتول كاليتسكي​

لن تنتصر الولايات المتحدة الأمريكية في حربها الضريبية مع الصين، بِغضِّ النظر عمّا سيقوله الرئيس دونالد ترامب أو سيفعله في الشهور المقبلة. ويعتقد ترامب أنه هو من يسيطر على زمام هذه الحرب؛ لأن الاقتصاد الأمريكي قوي جداً، ولأن كلا الحزبين السياسيين في أمريكا يدعمان الهدف الاستراتيجي المتمثل في كبح صعود الصين والحفاض على الهيمنة الأمريكية.

ولكن المثير للسخرية، هو أن هذه القوة هي مكمن الضعف القاتل للرئيس. إذ من خلال تطبيق الصين لقاعدة الفنون القتالية التي تجعل قوة العدو تنقلب ضد هذا الأخير، ستنتصر الصين بسهولة في هذه المنافسة، أو على الأقل ستخرج بنتيجة تَعادُل مع الولايات المتحدة الأمريكية.
ويقول الخبراء الاقتصاديون منذ عهد دافيد ريكاردو، أن تقييد الواردات يحد من رفاهية المستهلك، ويعرقل نمو الإنتاج. لكن هذا ليس السبب الرئيسي الذي سيجعل ترامب ينسحب من الحرب التجارية. إذ في عرقلة الحرب بين الصين والولايات المتحد الأمريكية قاعدة اقتصادية أخرى، نادرا ما يشار إليها لتفسير عدم جدوى تهديدات ترامب الضريبية، كما أنها أكثر أهمية بكثير من مفهوم الميزة النسبية لريكاردو، إنها: إدارة الطلب الكِنزي.
أكيد أن الميزة النسبية تؤثر على الرفاه الاقتصادي على المدى البعيد، لكن ظروف الطلب هي من سَيُحدد إذا كانت الصين أو الولايات المتحدة الأمريكية ستخضعان للضغوطات وتلتجئان للقضاء لتحقيق سِلم تجاري في الشهور القليلة المقبلة. وتُظهر بوضوح دراسة تمحورت حول إدارة الطلب، أن الولايات المتحدة الأمريكية ستعاني من ضرائب ترامب، بينما ستتفادى الصين أي آثار عكسية لها.
ومن منظور كنزي، تعتمد نتيجة الحرب، بشكل رئيسي، على ما إذا كان أطراف النزاع يعانون من ركود أو فائض في الطلب. إذ في حالة الركود، يمكن للضرائب أن تنهض بالأنشطة الاقتصادية وبالشغل، حتى ولو كان ذلك على المدى البعيد. لكن عندما يستثمر اقتصاد ما كل ما لديه من قوة أو ما يقارب ذلك، فستؤدي الضرائب إلى ارتفاع الأسعار، وسيرفع ذلك من الضغوط المتزايدة على معدلات الفائدة للولايات المتحدة الأمريكية. وهذا ينطبق على اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية اليوم.
إن الشركات الأمريكية، ككل، لا تستطيع إيجاد يد عاملة جِدُّ رخيصة، تغنيها عن واردات الصين؛ وحتى الشركات الأمريكية القليلة التي تحظى بامتيازات ضريبية لبيع وارداتها من الصين بأقل الأسعار، ستحتاج إلى الرفع من الأجور وبناء شركات أخرى، بالإضافة إلى الضغط المتزايد على التضخم ومعدلات الفائدة. ونظرا للقدرة الإضافية الصغيرة المتوفرة، سيكون الاستثمار والتشغيل اللذان تحتاجهما الولايات المتحدة الأمريكية لتعويض السلع الصينية على حساب قرارات الشركات الأخرى التي كانت تحقق أرباحا أكثر قبل الحرب الضريبية مع الصين. إذا، فالولايات المتحدة الأمريكية لن تستثمر ولن تُشَغِّل عمالا جددا لمنافسة الصين، مالم تكن متأكدة من استمرار الضرائب لعدة سنوات.
ورغم أن الشركات الصينية على حسن اطلاع ودراية بهذا الأمر، فهي لن تخفض من سعر صادراتها للتصدي لتكلفة الضرائب الأمريكية. وهذا سيجعل المستوردين الأمريكيين يدفعون هذه الضرائب ونقل تكلفتها إلى المستهلك الأمريكي(مما سيزيد من التضخم)، أو إلى المساهمين الماليين من خلال تخفيض الأرباح. وبالتالي، فالضرائب لن تكون بمثابة «عقوبة» على الصين، كما يعتقد ترامب. بل ستؤدي بشكل رئيسي، إلى تضرر المستهلك الأمريكي والشركات الأمريكية، تماما مثل ارتفاع الضرائب على المبيعات.
ولنقل أن الضرائب قد تجعل الصين تسحب بعضا من سلعها من الأسواق الأمريكية، من أين ستأتي الواردات ذات الأسعار التنافسية التي تعرضها الصين بسعر أقل؟
في معظم الحالات، سيكون الجواب هو من الاقتصادات الأخرى الناشئة. سيتم استيراد بعض السلع الرخيصة الثمن مثل الأحذية واللعب من فيتنام والصين، وقد يتم نقل مرحلة التجميع النهائي لبعض الآلات الإلكترونية والصناعية إلى كوريا الجنوبية أو المكسيك. بينما قد يحل بعض المُزَودين اليابانيين والأوروبيين محل الشركات الصينية التي تبيع بضائع غالية الثمن. إذا، هذه العوامل تثبت أن الضرائب تشكل «عقوبة» محدودة المدى جدا على الصين، ولن يلحق هذا ضرراً بالاقتصادات الناشئة والاقتصاد العالمي، بل سيؤدي إلى ارتفاع متواضع في الطلب، نتيجة لاستبدال صادرات الصين إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
صحيح أن المصدرين الصينيين قد يتعرضون لبعض الخسارة لأن غيرهم من المنتجين يستغلون الضرائب الأمريكية لتخفيض أسعار بضائعهم. لكن هذا لن يؤثر على النمو، وفرص العمل، وأرباح الشركات في الصين إذا استُعمِلت إدارة الطلب لتعويض خسارة الصادرات. ولقد شرعت الحكومة الصينية بالفعل في النهوض بالاستهلاك والاستثمار المَحلين من خلال تيسير السياسة النقدية وتخفيض الضرائب.
لكن إجراءات الصين المحفزة كانت ولا زالت لحد الساعة حذرة، نظرا لضرورة أخذهم بعين الاعتبار للتأثير المتواضع الذي خلفته ضرائب الولايات المتحدة الأمريكية على صادرات الصين. ومع ذلك، إذا بدأت علامات الضعف تظهر على الصادرات، ستكون الصين قادرة بل ومُطالَبَة بتعويض ذلك الضعف من خلال إجراءات إضافية تهدف إلى تعزيز الطلب على المستوى المحلي. ومبدئيا، يمكن للصين أن تتفادى أي ضرر بسبب الضرائب الأمريكية فقط بالاعتماد على مُحفز كنزي واسع النطاق كوسيلة للرد على هذه الضرائب. لكن هل سترغب الولايات المتحدة الأمريكية بفعل هذا؟
وهنا ينقلب دعم الحزبين الأمريكيين «لسياسة الشمول» اتجاه الصين ضد ترامب بشكل متناقض. وترفض الصين لحد الآن، استعمال حافز الطلب العلني كسلاح في الحرب التجارية نظراً للالتزامات القوية للرئيس شي جينبين التي ترمي إلى الحد من نمو ديون الصين وإصلاح القطاع البنكي.
لكن من المؤكد أن مثل هذا الجدل بشأن السياسة المالية ضد السياسة الكنزية لم يعد ذات صلة، حيث إن الولايات المتحدة الأمريكية وصفت المعركة حول ضرائب ترامب على أنها بداية الحرب الباردة الجيوسياسية. إنه ببساطة لَأَمرٌ مستحيل أن يعطي شي أولوية كبرى لإدارة الديون على حساب تحقيق النصر في الحرب الضريبية؛ وبالتالي إظهار عدم جدوى استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية الشمولية ضد الصين.
وهذا يجعلنا نتساءل كيف ستكون ردة فعل ترامب عندما تبدأ ضرائبه بإلحاق الضرر بالشركات الأمريكية والناخبين بينما لا تأبه لها الصين وباقي العالم. إن الجواب المحتمل هو أنه سيتبع نزاعاته السابقة مع كوريا الشمالية والاتحاد الأوروبي والمكسيك. و «سيعقد صفقة» تفشل في تحقيق الأهداف التي أعلن عنها، لكنها ستمكنه من التباهي ب»فوز» ما، وتبرير عدوانه اللفظي الذي يلهم مؤيديه.
إن تقنية التأثير الخطابي لترامب والتي من الغريب أنها لقيت نجاحا، والتي تدعو إلى» الصراخ عاليا وحمل راية بيضاء» تساعد على تفسير التناقض المستمر لسياسته الخارجية. ومن الأرجح أن تكون الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية المثال الموالي.

كبير الاقتصاديين والرئيس المشارك لـ كافينيل دراكونوميكس ومؤلف «الرأسمالية 4.0، ولادة اقتصاد جديد».