«اللي ما شاف البصرة.. يموت حسرة»

مقالات رأي و تحليلات الأحد ١٦/سبتمبر/٢٠١٨ ٠٤:٢٢ ص
«اللي ما شاف البصرة.. يموت حسرة»

أحمد المرشد

ما نشاهده ونقرأه ونسمعه عن مدينة البصرة هذه الأيام وأحوالها المتدنية جعلني أعود بالذاكرة إلى عام 1978 عندما كتبت مقالا عن مدينة النخيل الباسقات، أتغزل في البصرة رائعة الجمال وكان بعنوان «اللي ما شاف البصرة.. يموت حسرة». لقد عانت البصرة وخسرت الكثير من مفاتنها وروعتها وجمالها خلال الحرب العراقية - الإيرانية، ثم نالت منها حرب تحرير الكويت عام 1991 بعد غزو العراق للكويت، لأكتب مقالا آخر عن البصرة عام 1992 بعد تدميرها بعنوان «اللي يشوف البصرة.. يموت حسرة». وما بين المقال الأول وحتى يومنا هذا يكون قد مر نحو 40 عاما تبدلت فيها الحياة في البصرة الفيحاء، شريان العراق الاقتصادي، وثغره الباسم، مدينة النخيل والحناء بأهلها الطيبين وتاريخها الزاخر بالأمجاد حيث كانت دوما محلا للعشاق، ولهذا سكنها الشعراء والكتّاب والفنانون. فالبصرة المعروفة بـ«الفيحاء» اشتهرت ببلد النخيل والأنهار والجداول، والطيبة، حتى وصفوها بـ«بندقية العرب» لكثرة ترعها وسواقيها وشطوطها وجداولها ومياهها الغزيرة وآبارها العذبة.

اشتهرت البصرة على مر تاريخها بكثرة شعرائها وكتابها وعلمائها وأساطيرها وحكاياتها النابعة من تلك البيئة العذرية لتلهم الشعراء والرسامين والفنانين بأجمل قصائد ولوحات فنية عن الأشجار والنخيل والأنهار والأسواق القديمة والبيوت الأثرية بيوت الشناشيل (المشربية) والبساتين الجميلة والطيور والأسماك، فهي طبيعة غنّاء بكل ما فيها من أناس طيبين وكرم فطري وبساطة عذرية وروائح زكية إلا أن هذا الجمال قد سقط ضحية الزمن والتغيير والحروب والنزاعات في مستنقع آسن لنرى البصرة البائسة

التي كنت أتمنى أن تظل كما عرفتها وكتبت عنها عام 1978، ولكن البصرة تحولت إلى مدينة لا يرضى عنها سكانها لما يعانونه من إهمال من السلطة المركزية في بغداد رغم أنها العاصمة الاقتصادية للعراق وتمده بنحو 93% من إنتاجه النفطي، ولكن أهل البصرة استيقظوا أخيرا على وقع أزمة خطيرة تهدد مستقبل مدينتهم ودولتهم الممثلة في العراق الكبير، هذا العراق الذي سيطرت عليه قوى خارجية منذ عام 2003 عندما غزته القوات الأمريكية لتطيح بصدام حسين وتترك بدلا منه التطاحن السياسي بين القوى العراقية وكثرة ولاءاتها. لقد انتفضت مدينة البصرة ضد استيلاء الآخرين لخيرات مدينتهم ، لتكون في مقدمة المدن الرافضة لذلك، فكان موعد الانتفاضة في أواخر يوليو الفائت واستمر حتى يومنا هذا، وكان يوم الجمعة قبل الفائت هو ذروة الانتفاضة احتجاجا على تردي الأوضاع المعيشية وانهيار الخدمات العامة في المحافظة. وقد حملت انتفاضة أهالي البصرة رسائل عدة لحكومة بغداد، فتلك الانتفاضة تجاوزت مرحلة الغضب ذي الدوافع الاقتصادية والمعيشية إلى مرحلة جديدة يكون عنوانها «استعادة الوعي» فقد أدرك أهالي البصرة دون غيرهم من بقية مدن العراق تقريبا الأسباب الحقيقية التي قادت إلى حالتهم هذه من فقر وسوء إدارة مرافق أغنى المدن العراقية والمعبر البحري الوحيد للعراق. لقد أدرك سكان البصرة أن مشاكلهم الاقتصادية لا تكمن في قلة الموارد، ولكن في رهن قرار بلادهم السياسي في يد الغير.
لقد انتفض سكان البصرة ليكونوا في مقدمة بقية شعب العراق، وكان لانتفاضتهم درس بالغ والذي يعد تحوّلا عميقا في المشهد العراقي عموما وليس البصرة وحدها، أن العراق كبلد مركزي بدأ يتعافى ويستعيد هويته الوطنية وقراره المستقل
لطالما كانت البصرة هي قلب العراق النابض وأرض نخيلها الباسقة وأشجارها الوارفة لذلك ستظل ثغر العراق الأهم ومستودع نفطه وتجارته وقمحه ونخيله، ومنجم ثرواته الفكرية والفلسفية والأدبية، ومنبع غنائه وموسيقاه، ولتظل مدينة الجاحظ والفارابي وابن سيرين وبدر شاكر السياب... ومطلوب من العرب الإسراع في تعزيز قوة الدولة العراقية لكي تتمكن الحكومة المركزية من المساواة بين كل العراقيين، وعلى العرب الانخراط بصورة أكبر في التعاون الاقتصادي مع العراق وتعزيز المشروعات العملاقة طويلة الأمد، فمثل هاتين الخطوتين تساهمان بالضرورة في تقليص الاعتماد العراقي على الغير لتكون مساعدات العرب عموما الجسر الذي يعبر عليه العراق إلى المستقبل بعيدا عن الصراعات الطائفية والعرقية. ولا نخفي سرا إذا قلنا إن ضياع العراق تتحمّله الدول العربية التي لم تحتوِ بلاد الرافدين، حيث تركت العراق يعاني من مشكلاته مما أتاح الفرصة للغير للتدخل بشؤونه الداخلية والسيطرة على قيادته وقراره السياسي. وقد أسفر هذا الابتعاد العربي عن حدوث فراغ سياسي الأمر الذي انتهى عليه حال العراق.
نأمل نحن العرب أن تعود البصرة إلى سيرتها الأولى، صافية في ليلة قمرية لتستقبلنا ببساتينها ورياحينها ونخيلها ورمانها، ولتعود البصرة كما عهدناها تلك المدينة المحاطة بالمجاري المائية من جهاتها الأربع، التي تضفي عليها حركة المد والجزر التي تُحدث يوميا جمالا لتجعلها نابضة دوما بالحياة لنكتب عنها من جديد «اللي ما شاف البصرة.. يموت حسرة».

كاتب ومحلل سياسي بحريني