جمالية البناء السردي في رواية عوْدَةُ الزَّرَافَة

مزاج الأحد ٢٦/نوفمبر/٢٠٢٣ ١٧:٥٥ م
جمالية البناء السردي في رواية عوْدَةُ الزَّرَافَة

بقلم: ياسر عوض علي، كاتب وناقد أدبي

مسقط - ش

هل هي الرواية الأولى لعزمي علي بله؟ أم هي الرواية الأولى في سلسلة روايات متصلة؟

لو كانت الرواية الأولى لعزمي فقد استطاع كتابة رواية جيدة في مغامرة تمسَّك بأدواتها وتحلَّقَ فوق المكان. ولو كانت الرواية الأولى في سلسلة روايات متصلة فقد نجح في ذلك، وسنبيَّنَهُ لاحقاً .

لا تستطيع رواية أن تغالط عناصرها، وإلا فإنها تكون خارج سياق التنميط الأدبي الذي يحكم العملية الإبداعية؛ فرواية عودة الزرافة أَسّستْ منذ العنوان إلى فعلٍ ثانٍ، سبقه فعلٌ أول غير مُـدرك، ففعل العودة يرتبط دلالياً بالغياب الأول الذي يستدعي فعل العودة. ففعل العودة هنا يهيئ التلقّي لعملية استرجاع أسباب الغياب، وهنا تَمّت عمليةُ البناء القائمة على التذكُّر والرجوع إلى الماضي. فبنائية السرد أَحكَمَتْ نظامها الإجرائي، والزرافة دالة ذات سياقات ثقافية وبيولوجية. فالزرافة كائن مرتبط بالأعلى الذي لا يعرف الانحناء، وهي من المخلوقات الجمالية في تكوينها العضوي وتخطيطاتها الجسدية. والزرافة في السياق الشبابي السوداني دالة على الطول العصيِّ على الامتطاء؛ لذلك توجد مقولة شبابية شعبية تقول : "الزَّراف ركوب الجن" أي: لا يستطيع امتطائها إلا الجن. والزرافة دالة على سرعة الركض والهروب، وهذا يؤكد فعل العودة. الدلالة الكلية للعنوان قبل قراءة الرواية تحيلك إلى السياقات الدلالية الثقافية لعودة الزرافة حسب المنطقة الثقافية التي يقف عليها التلقّي. ثم أسفل العنوان يفاجئك البيت الشعري الذي يفضح العنوان تماماً: يا ليتَهُ يَعلَمُ أنِّي لَستُ أذكرُهُ وكيفَ أَذكرُهُ إذ لستُ أنساه

وهو بيت من قصيدة رائعة تنسب للمتنبي مطلعها:

أبلغ عزيزاً في ثنايا القلب منزله إني وإن كنتُ لا ألقاه ألقاه

لن أدخل في جدلٍ مع علماء الأدب في صحة نسبها إلى المتنبي أو إلى علي بن الجهم العباسي، فما يهم هنا هو المعنى الذي يرتبط بدلالة العنوان. ولن أدخل كذلك في الجدل الصوفي في إحالتها إلي التعبد؛ فالزَّرافة تنفي الروحانية ومخاطبة الذات الإلهية، ولكن في نفس السياق أشير إلى تناص قصيدة نزار قباني:

ماذا أقول له لو جاء يسألني إن كنتُ أكرهه أو كنت أهـواهُ

وهو نصٌّ رقيق مسكوت عنه في عنوان الرواية، مفصح عنه في الإحالات المتعددة لبيت المتنبي.

لا يمكن قراءة البيت الشعري بمعزل عن القصيدة أو بمعزل عن العنوان. إذن المسكوت عنه في فعل العودة هو (عزيزاً في ثنايا القلب)، (لا ألقاه)، (تباعد عن سكناي سكنا )، (لست أنساه). وبذلك يقرأ العنوان في سياق المحبوبة التي تعود. ماهي أسباب الغياب؟ ماهي أسباب العودة؟ لتعرف ذلك عليك إلتهام الرواية كاملةً.

المكان في الرواية هي مدينة الدِّنْدِر، وبها محمية أو حظيرة الدندر السياحية. والمكان هنا يحيلك إلى تكوين ثقافي مميَّز، فهذه المدينة تبعد جنوب الخرطوم (400 كلم) وتسكنها مجموعات ثقافية متمايزة من القبائل العربية، مثل قبائل (رُفاعة – الحَمَدَة – الحَلاوِين – القَواسمة– الكواهلة– الجعليين – العَقَليين)، وقبائل غير عربية مثل (الفَلّاتة – الهَوسا– النُّوبة–

البَرقو– المَسَاليت، ومجموعة كبيرة من قبائل جنوب السودان).

هذه المجموعات الثقافية تتعايش في سلام اجتماعي منقطع النظير، وتنصهر في مجموعات عمل مرتبطة بالزراعة والسياحة؛ لأنَّ مدينة الدِّنْدِر في وسط السودان هي كنزٌ للحياة البرية، يؤمُّها السياح مِن كل العالم. هذا المكان القصدي تم تهيئته ليلعبَ الدور والمسرح الرئيسي للأحداث في الرواية، ولا يوجد مكان أفضل منه ليحتضن تلاقح الثقافات، ويبشر بالحضور الإنساني في أبهى صُورِهِ في فعل الحب الذي لا يعترف بالمسافات والتباينات الإثنية، ويهيئ ضرورياً كمحميةٍ لعودة الزرافة إلى مسكنها الطبيعي. وبذلك يتسّق المكان دلالياً مع الحدث الرئيسي في الرواية والذي عبَّر عنه العنوان .

الزمن في هذه الرواية ينقسم إلي أربعة أزمنة: الزمن الماضي الذي يتم استرجاعه، والزمن الحاضر الذي يستقبل عودة الزرافة كفعل دلالي مركزي داخل الرواية، والزمن النفسي للشخصيات، وزمان السرد والروي. الزمن الماضي هو الذي تم التركيز عليه في الرواية؛ لخصوصيته كدافع رئيسي للعودة، واستطاع النص الروائي أن يقدِّمَهُ بكل تناقضاته الاجتماعية وحراكه التاريخي، ويتحول النص الروائي إلى وثيقة دلالية توثق للمكان في مرحلة زمنية منتقاة.

أما الزمن النفسي للشخصيات فقد تم بناء الشخصيتين الرئيسيتين في الرواية ثقافياَ؛ ليحتدم الصراع الثقافي، والذي هو صراع الحضارات أو حوار الحضارات أو صدام الحضارات، فصابر هو رجل الزجاجات مُزارِع مثقّف وكذلك دليل سياحي، وبذلك امتلك المهنتين الرئيسيتين في مدينة الدندر، وامتلك قدرة الحوار مع المكان وفهم الزمان وتحولاته. ورجل الزجاجات والتي كررها النص كثيراً يتمسّك بذكرياته، ولا يَدَعها تنفرط منه أو تنكسر، ودلالة احتفاظه بالزجاجات تؤكد اهتمامه بالتوثيق لكل رحلاته، حتى لو كانت هذه الزجاجات فارغة أو فقدت محتواها وذائقتها وطعمها.

والزرافة إمراة فرنسية تُعبِّر عن الحضارة في العالم الأول، ولكنها أسيرة للجغرافيا، وكونها معلِّمة يجعلها مراقبة جيدة ومدركة للاختلافات الثقافية بين العالمين الأول والثالث. وباقي الشخصيات هي كومبارس لتكملة المكان الدلالي. وتُرِكَت مصائرها معلقة بدون نهايات واضحة.

وحاسمة. مما يجعل مستقبل هذه الشخصيات مفتوحاً على كافة الاحتمالات، وربما تمهد الطريق لروايات قادمة تكون عودة الزرافة أُولى حلقاتها المتصلة في سلسلة روائية في زمان مختلف كما أشرنا في بداية التقديم. اعتمد زمن السرد على المتحدث الأول كأساس للسرد في أغلب الرواية، وعلى الرواي العالم بكل شيء في بعض الأحايين، وكان هذا يتم بسلاسة وبانتقالات تكشف مضمون الحدث دون أن يحس المتلقي بالقفزات الزمكانية التي لو لم يحسنها النص لكانت كافية بالاطاحة بالرواية خارج أزمنة السرد. إنَّ الانتقالات في الروي من ضمير المتكلم إلي العالِم بكل شيء ساعدت الرواية في الإبانة عن الحوار الداخلي والذي يدل على التطور النفسي للشخصية، وهذا هو التأسيس المنطقي للسرد في رواية يلعب الصراع النفسي وتنازع الرغبات بين ما هو مسموح به وبين ضرورات الصبر التي يحملها بطل الرواية في اسمه.

اللغة في هذه الرواية عمدت إلى التجريد السردي دون الغوص في المحسّنات البديعية، واعتمدت بشكل واضح على أقل الإحالات الدلالية التي لا تغيّب القصدية في وصف المكان، أو وصف الحدث، واكتفت بالحوارات القصيرة التي تُعِين المتلقّي على الإمساك بتفاصيل السرد؛ لأنّ الواقعية هي الأساس التي بَنتْ عليه الرواية حِراكها وتطور أحداثها.

بدأت الرواية بجملة حوارية إخبارية: السمسم حكم يا صابر. هذه الجملة القصيرة تحمل من الدلالات الكثير؛ فهي دالة على شخصية المُزارع، ودالة على موسم الحصاد، ودالة على الزمن، ودالة على الثراء؛ فالسمسم محصول نقدي يحقق عائدات مالية جيدة. هذا الاستخدام المكثّف للغة والحوار لم يكن عنصرَ تغييب للسرد، بل ظلّت الرواية مُمْسِكة بتلابيب القارئ تحبس أنفاسه ولا تطلقه إلا في الغلاف الأخير.

حوار آخر ويعتبر أطول حوار في الرواية بكاملها:

(كم تنوين البقاء في رحلتك السياحية هذه؟) سألها ضابط الجوازات في مطار الخرطوم.

وتبعه حوار قصير وضّح للمتلقي سير الأحداث، وضح الماضي وعودة الزرافة، وضح الصراع النفسي داخل الشخصية، (أو العودة سريعاً) ، وضح الحوار الداخلي .

شكلت ﺒﻨﻴﺔ النصّ الروائي المعارضات البنائية (Binary Oppositions) التي تُلَمّح مع تصاعد الحدث الرئيسي في الرواية، ولعبت على جدل الزوجيات المتضادة: (البقاء والسفر، السكوت والإفصاح، الموت والحياة، الطبيعة والثقافة، الحب والزواج، التعدد والإفراد، المكان والتاريخ. هذه المعارضات تشكل الهياكل الأساسية في الرواية. وطرحت أسئلتها البنائية الوجودية، وحفزت أفق التوقع عند القارئ.

رواية عودة الزرافة هي الرواية الأولى لروائي يستمد من الواقع والتأريخ والثقافة جدل أسئلته الروائية، ويؤسس لموقفه الوجودي في مكان يلعب التباين الثقافي دوراً مهماً في إمكانية الحياة فيه، وقدرة هذا المكان على تقديم نتاجه الإنساني للحضارة الإنسانية جمعاء.