محمد الزبير قامة فكرية

مقالات رأي و تحليلات الأحد ٠٣/يناير/٢٠٢١ ٠٨:٣٩ ص
محمد الزبير قامة فكرية

علي بن راشد المطاعني

القليل من المسؤولين وسط زحمة المشاغل وتعدد المسؤوليات هم من يهتمون بالفكر والثراث والطبيعة، وخدمة المجتمع، والقليل جدًا من رجالات الأعمال من يهتم بالثقافة والتأليف وتوثيق الكثير من المعالم والشواهد الحضارية، والإرث واللُقى الحضارية لهذا الوطن الموغل في الأصالة والقدم.

والقليل من الشركات والمؤسسات التي تهتم ببناء المتاحف لحفظ ذاكرة الوطن وتاريخه العريق، لتضيف معلما حضاريا يضم بين جنباته جانبا مضيئا من إشراقات هذا الوطن العزيز في الحقب الماضية ويفتح آفاقا واسعة أمام الباحثين والدارسين للاطلاع على مكنونات بلادهم، ويغرس في نفوس الأجيال الصاعدة أرث الماضي التليد للاعتزاز بماضي وطنهم وإرث آبائهم وأجدادهم وهم يتطلعون للمستقبل بكل ثقة بأن رصيد بلادهم في الحضارة الإنسانية كبير، يستوجب استحضاره واحياؤه في دراساتهم العلمية..

والعدد الضئيل من رجالات الأعمال الذي أنشأ مركزا للريادة الأعمال تسهم في تفريخ رواد أعمال يسلكون أثر رجال الأعمال العمانيين الذي نحتوا الصخور الصلدة لبناء مؤسساتهم وشركاتهم.

والقليل من أرباب الأعمال من يسجل معالم عمان وطبيعتها الجميلة بعدسته لينقل للعالم جماليات بلاده، ويوثق إرث الماضي وحضارة هذا البلد قبل أن تأتي عليها عوامل التعرية وتتآكل بفعل العوامل المناخية وغيرها.

إلا أنّ محمد بن الزبير مستشار جلالة السلطان لشؤون التخطيط الاقتصادي المتقاعد، كان استثناء، فقد كسر الصورة النمطيّة لرجال الأعمال، حينما كرّس حياته لتأصيل الكثير من معالم هذا البلد من خلال مؤلفاته، ومن خلال كتبه التي تُسلّط الضوء على موضوعات منتقاة، وبهذه التفاصيل الدقيقة والصور النادرة التي تحتويها، لتبقى حاضرة وباقية تناطح الزمن، ولتؤرخ جانبًا مشرقًا من تاريخ عُمان وحضارتها وإرثها العريق، الأمر الذي يبعث على الاعتزاز بهذه الشخصيّة التي نذرت نفسها لإحياء جوانب بالغة الأهمية ممّا يضمه هذا الوطن بين ثناياه، وما يزخر به من مكنونات مُتعددة قدّمها للعالم بصورة رائعة، قلّما تجدها في الكثير من المؤلفات.

فاختياراته كانت موفقة، ودقيقة، وأضاءت الكثير من الزوايا المُعتمة، والتي لم يقترب منها أحد، لتبقى لمساته الموفقة كمنارةٍ شاهقةٍ يُنظر إليها من بعيد ومن أعلى، فنوقن بأنّها باقية حقًا كعلامة بارزة في جبين الزمن، وهو يعدو كما كان منذ الأزل، وأنّها قادرة على حفر اسمها في أخاديد الزمن الصلدة..

إنّه في الواقع جهد فكري وثقافي وتوثيقي، يهدف بطبيعة الحال لإبلاغ الأجيال المُتعاقِبة والمُتتالية بأنّ للسلطنة إرثًا حضاريًا لا يُقدّر بثمن، وأنّ عليهم البناء فوقه، وغرس بيارق الشموخ في شواهق جباله الشماء.

لقد أثرى الزبير المكتبة العُمانية والعربية بالعديد من المؤلفات الثمينة كمًّا ونوعًا، وبما تزخر به من إشراقات وجوانب قلّما يفكر فيها مؤلف، ناهيك عن تناولها، والإبحار في خضم أمواجها العاتية، لقد أشرف معاليه في الواقع على الكثير من الموسوعات الثرة والمُؤكِّدة على عُمق وأصالة تاريخ عُمان التليد.

لقد شهدنا الأسبوع الفائت تدشين موسوعتين تُعدان من أهم الموسوعات التي ستبقى أبد الدهر رصيدًا ثقافيًا وتاريخيًا خالدًا لهذا الوطن الشاهق بإرثه، وستبقيان مراجع علميّة لكافة الجهات والباحثين في مجالات الطبيعة والتاريخ العُماني.

ولعلّ تدشين كتاب (جبال عُمان) من ثلاثة مجلدات وعبر 1700 صفحة كأحدث الكتب التي رفد بها المكتبة العُمانية لتنضم لعشرات المؤلفات المشابهة، وهي تميط اللثام كما ينبغي عن مقومات السلطنة الطبيعية والحضارية يُعدّ واحدًا من أهم الكتب التي تؤرخ وتوثّق للسلاسل الجبليّة في السلطنة وأنواعها وجغرافيتها وجيولوجيّتها، وتغطي 409 قمم جبلية، وليُسِّلط الأضواء باهرة على هذه الكنوز الطبيعيّة ليتسنى استغلالها سياحيًا وتعدينيًا، خاصة وأنّ هذه الموسوعة جاءت بتوجيهات من المغفور له بإذن الله جلالة السلطان قابوس طيّب الله ثراه، والذي استشرف عبر بصيرته الثاقبة أهميّة وجود مراجع علميّة دقيقة عن جبال عُمان، وتكويناتها لتبقى مصدرًا أساسيًا، ومرتكزا علميًا لكافة الجهات والباحثين الأكاديميين وغيرهم.

‏وكذلك تدشين موسوعة (عُمان منذ الأزل) وهي موسوعة علميّة مصوّرة من أربعة أجزاء، تعيد توثيق وتبويب التاريخ العُماني لأكثر من 7000 عام خلت، ويعد هذا الإصدار من أبرز الإنجازات التاريخية لتوثيق وتأصيل التاريخ التليد لهذا الوطن، وقد جاء أيضا بتوجيهات سامية من المغفور له بإذن الله السلطان قابوس طيّب الله ثراه، وهو يهدف لتنقية التاريخ العُماني من الشوائب، وتأكيد حقيقة أنّ عُمان هي أصل الحضارة في شبه جزيرة العرب، ولتتعرف الأجيال العُمانية على هذه الحقائق، ولتبني عليها صروح المجد العُماني الممتد إلى ما لانهاية.

إنّ هذه المؤلفات ستبقى خالدة عبر الأزمان، ولتتحدث بلسان عربي مبين، عمّا تعنيه كلمة عُمان باعتبارها مرادفة لوطن شامخ كان وسيظل هكذا بحول الله.

لقد هام محمد بن الزبير وجدًا بالطبيعة العُمانية من جبالٍ ووهادٍ وأوديةٍ وكهوفٍ، فعمد لتوثيق كل تلك الروعة عبر الكلمة والصورة المُنتقاة بعناية، فإذا بنا نحن في نهاية المطاف أمام إرثٍ ثقافي هو المرجع الأضخم للأبناء والأحفاد عبر الأزمان.

تعرّفت عليه منذ فترة طويلة مضت، وارتبطت به وكغيره من المسؤولين ورجالات الوطن الأفذاذ، وفي كل مرة أجلس إليه أجد لديه الجديد من ضروب المثير ثقافيًا وفكريًا وأدبيًا، أجد لديه الحكمة المُفضية للتّمهُّل والتريُّث واختيار عناوين المشروعات الفكرية المُؤدية لإضافةِ المزيد من رحيق الإبداع، ليُضاف لإرث هذا الوطن الكبير معنًى ومغزًى. بالطبع الحديث عن اهتمامات محمد الزبير لا يمكن أن تختزل في هذه العجالة ولا يمكن أن نوفي هذه الشخصية حقها في الاهتمام الثقافي والفكري بهذا الوطن، وإيلائه كل الاهتمام الذي يستحقه، وستبقى إسهاماته كصدقات جاريات لدى ربّ العزة وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وإذ هي بعد ذلك في ميزان حسناته يوم لا ينفع مال ولا بنون. نتمنى أن يحذو رجالات الأعمال في عمان حذو محمد بن الزبير، وأن نشاهد مساهماتهم المجتمعيّة والثقافي والاقتصادية حاضرة تمشي بيننا، وأن يكون دورهم في تجاه مجتمعاتهم أكبر وواضحًا للعيان، فكثير من القطاعات هي الآن أكثر حوجة لمبادراتهم في المسؤولية الاجتماعية.. نأمل أن يُستفاد من هذا المؤلفات وما تحتويه من إرث حضاري كبير، وأن نستلهم هذا النهج العلمي الذي سار فيه وعليه، والذي وصلنا به ومعه لهذه الرياحين ذات الشذى، لتملأ فضاءات دنيانا بهذا العبق الثقافي الحضاري البديع.