نوفمبر المجيد استحضار الماضي واستشراف المستقل

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ١٨/نوفمبر/٢٠٢٠ ١١:٤٠ ص
نوفمبر المجيد استحضار الماضي واستشراف المستقل

مسقط - الشبيبة

أحمد بن  عيسى الشكيلي

مع إشراقة أيام نوفمبر المجيد من كل عام؛ تتجدد في نفوس العمانيين بل تتأكد مشاعر الحب والولاء لهذا الوطن العظيم، وللقائد الباني المؤسس لنهضة عُمان المجيدة، المغفور له بإذن الله جلالة السلطان قابوس بن سعيد طيب الله ثراه، مع إدراكنا بأن هذه المشاعر لا يحدّها زمان، ولا يؤطرها مكان، بل هي راسخة في قلوب العُمانيين ونفوسهم أينما كانوا، ومهما بلغوا من العمر والشأن .

قبل خمسين عامًا كانت الحياة هي أسمى الطموحات، وكانت لقمة العيش هي الغاية التي إن تحققت كأن المرء قد حِيزت له الدنيا بما فيها، عاش العُماني قبل عام سبعين معيشة ضنكًا على مختلف الأصعدة، وفي شتى مناحي الحياة، يقضّ مضجعه الخوف من المستقبل الغامض، ويرهق نفسه التفكير في مآلات حياته، فبلاده تتقاذفها الكثير من الويلات، وتحيط بها الكثير من المعضلات التي ما إن تخلّصت البلاد من واحدة إلا أحاطت بها واحدة أخرى قد تكون أشد وأقوى، فتشتت الشمل، وانقسم الصف، وزادت ظلمة الجهل، واتسعت رقعة العوز والفاقة، وبات المرض يتنقّل من بيت إلى آخر حتى أنهك القوى، وأهلك الأنفس، وأتعب الأبدان .

وعاش العُماني يرى تقلبات الأيام ويعايش مرّها الذي استشرى على الأرض وساد عليها، فلا يجد جديدًا يُطمئن به نفسه، ولا يستشعر في نفسه أملًا يُحدّثه بأن الغد الباسم آت، وأن الحياة مهما ضاقت على الأنفس إلا أن الفرج آتٍ لا محالة، وأن الأمل يولد من قيود الألم، وأن بعد الترح ستُشرق شمس الفرح وضّاءة ينعم بنورها القاصي قبل الداني، ويجد دفئها كل من أرهقه شتاء الأيام وصقيعها.

وما إن ضاقت القيود والأصفاد، واتسعت حلكة الظلام؛ حتى انكسر القيد، وأشرقت الشمس على عُمان لتُنبيء أهلها بأن فجرًا عُمانيًا مُغايرًا جاء ليبعث في النفوس الآمال العظام، فقد وهب الله عُمان قائدًا مملوءً بالعزيمة والعمل، متطلعًا لأن يجعل منها كيانًا ذا رفعة وشأن على مختلف الأصعدة، فجاء قابوس كبصيص النور في حالك الظلام، جاء لعُمان وشعبها ليثبت للعالم أجمع أن المستحيل ما هو إلا قيدٌ يصفّد الطموحات، وأن الصعب سهلًا ممكنًا إن كانت هنالك إرادة وعزيمة لا تتوانى ولا تعرف الكلل، ولا يصيبها الملل في تحقيق الطموحات والغايات، جاء ليقول للعالم أجمع أن العُماني كان وما يزال وسيبقى علامة فارقة في تاريخ الشعوب، أن العُماني وإن تكالبت عليه ظروف الحياة؛ إلا أنه يخرج منها أقوى بأسًا وأشد عزيمة، وأن عُمان وطنًا لم يعرف الخضوع يومًا، وإن اليأس الذي تراكم على نفوس العمانيين ما هو إلا الوقود الذي ستتحرك به عجلة التنمية في هذا الوطن الذي ما عرف الخنوع يومًا وما استكان ولا توانى عن بلوغ الغايات .

جاء قابوس وعُمان متعطّشة لمستقبل ينتشلها مما عانته وقاسته بين داخلها وساحلها، بين سهلها وجبلها، بين بدوها وحضرها، فما كان منه إلا أن ينذر نفسه لعُمان التي أحبّها فبادلته الحب أضعافًا، عُمان التي تنفس هواءها صغيرًا، فاستقرّت في روحه كيانًا خالدًا، عُمان التي جعل من تربتها تبرًا، ومن هوائها عطرًا، ومن طموحات شعبها وآمالهم خارطة طريق لبلوغ الغايات لأجل عُمان التي أراد لشعبه أن يعيشها أرضًا وكيانًا لا يمكن لأهوال الأيام أن تنتقص من عُمانيّته .

لم تكن عملية البناء سهلة يسيرة، ولم تكن الطرق ممهدة نحو بلوغ الأهداف، ولكنّ الغاية كانت تستوجب تحمّل المشاق، فواصل القائد العمل ليلًا ونهارًا، وقطع البلاد شرقها بغربها، وشمالها بجنوبها، يقف على احتياجات شعبه، ويرسم للوطن في مخيلته مستقبلاً يسعى إلى تحقيقه، فأرهق نفسه وإن حاصره الكلل، وأتعب بدنه وما قوى عليه الملل، عمل فأجاد، لأن للأوطان في دم كل حرّ يد سلفت ودين مستحق كما قال شوقي، فكان العمل والبناء وفاء المدِين للوطن بدينه .

انتقلت عُمان في عهد جلالته - طيّب الله ثراه نقلات نوعيّة متعددة الأصعدة، وعلى كافة القطاعات بدءً من البُنى الأساسية التي افتقرت إليها البلد في فترةٍ ما، وليس انتهاءً بمجالات الرفاه الاجتماعي، كما تدرّجت كذلك في سلّم البناء التنموي من خلال استحداث المشاريع التي تحتاجها البلد، والتي من الممكن أن يعوّل عليها في رفد الاقتصاد الوطني وتنميته بما يجعله مصدرًا هامًا من مصادر البناء والتنمية، هذا عوضًا عن تطوّر النظام التشريعي والقانوني الذي وفّر لعُمان البيئة المناسبة نحو استكمال منظومة نهضتها الوطنية، وذلك نظرًا لما تمثّله التشريعات من سياجٍ يحفظ الحقوق، ويفنّد الواجبات التي يجب على كافة الأطراف أن تلتزم بها، كما أن التنظيم القانوني أتاح للمواطنين أن يتساووا في الحقوق التي يتيحها الوطن لأبنائه، والواجبات التي يجب عليهم أن يلتزموا بها، دون إضرار بطرفٍ أو فئة أو جماعة، فالوطن للعُمانيين قاطبة والفئوية ممقوتة لا مكان لها في هذا الوطن .

وكما استمرت المسيرة في بناء الداخل العْماني، فلم تغفل كذلك العلاقات الخارجية، فاتسمت السياسة العُمانية بنهجٍ أصبح يميّزها عن غيرها، فامتدت الأيادي العمانية للعالم أجمع بنهج السلام الذي تقوم دعائمه في الأساس على ركائز الدين الإسلامي الحنيف الذي يعد مصدرًا من مصادر التشريع في السلطنة، إضافة إلى اعتباره قيمة فاضلة من قِيم النسيج العُماني المبنيّ على أن العمانيين أخوة وإن اختلفت مشاربهم، أخوة وإن تعدّدت توجهاتهم الفكرية، وإنتماءتهم القبلية والمناطقية، فالوطن هو الذي يجمعنا، وولاءتنا للوطن على اعتباره هو الكل الذي يجب أن يجمعنا، وفي عُمان ما يجمعنا أكثر مما يفرّقنا، وبالتالي يجب علينا العمل لرفعة هذا الوطن وعلوّ شأنه .

ولأن عُمان أرضًا طيبة لا تنبت إلا الطيّب كما قال عنها جلالته طيّب الله ثراه، فمضت مسيرة الخمسين دون أن يتقمّص شعبها أيًّا من مظاهر الفرقة والتحزّب، أو أن يسعوا إلى ما يُعكّر الصفو، أو يكدّر الخاطر، فما امتهنوا إراقة الدماء، ولا عبثوا بأفكار الشعوب ولا انظمتهم الداخلية، ولا سعوا إلى زعزعة أستقرار بأي شكلٍ من الأشكال، فأصبح العُماني يطوف العالم مُرحّبًا به مثنيّ على أخلاقه وسياسة بلاده، لم يلقَ أذَا، ولم يُضمر له السوء، أو تكاد له الدسائس، لأنه في واقع الحال ما آذى غيره، ولا أضمر المكيدة لأحد حتى وإن آذاه، وهذا ليس من ضعف وإنما من سموّ أخلاق، ونهج غرسه المغفور له في نفوس شعبه .

اليوم .. وعُمان تحتفل بيوبيلها الذهبي للنهضة فهي مرحلة فارقة من مراحل تاريخها المجيد، مرحلة نستذكر فيها الماضي الذي بناه المغفور له جلالة السلطان قابوس بن سعيد طيب الله ثراه، شاكرين له ومقدّرين ما أنجزه لعُمان وشعبها، مستذكرين تضحياته الجسام، وآماله العظام، مُفنِّدين نطقه السامي، متأملين في مضامينه ورؤاءه التي جعلها ساسة العالم، مقصدًا لهم، فشكرًا لقابوس الذي ستبقى قلوبنا تحتضنه، ونفوسنا تدين له بدينٍ يصعب علينا وفاءه.

إن المسيرة العُمانية لن تتوقف بمشئة الله، فكما شاءت الإرادة الإلهية أن يرحل عنا قابوس، فجاءت لنا إرادته عز وجل بسلطانٍ توسّم فيه طيب الله ثراه من القدرات والإمكانات ما يؤهله فإدارة شؤون البلاد، ومواصلة قيادة المسيرة نحو المستقبل الذي كان يراه الكثير من المحللين السياسين غامضًا، سلطانًا قطع العهد على نفسه أن يترسّم نهج وخُطى السلطان الراحل طيب الله ثراه، وأن يرقى بعُمان إلى مستوى الطموحات والآمال، تبرز اليوم شخصية حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم - حفظه الله ورعاه - في ظل متغيراتٍ عديدة تعصف بالعالم أجمع، وتحت وطأة تحديات كبيرة لا تحيط بعُمان وحدها، بل ألقت بظلالها على سائر الدول، ولعل أبرزها التحديات الإقتصادية الكبيرة التي أحدثتها تهاوي أسعار النفط عالميًا، وما رافقها من انتشار جائحة كورونا على مستوى العالم، وما استدعته من تدابير وتدخلات لم تطل القطاع الصحي فحسب، بل شملت وأثّرت على كافة القطاعات، وأدت إلى شللٍ اقتصادي لدى بعض القطاعات، حيث أصبح العالم يئنُ مما أحدثته هذه الجائحة التي أرهقت الدول والشعوب اقتصاديًا ونفسيًّا واجتماعيًّا، وبات على حكومات الدول أن تتدخل لتحافظ على وضعها الاقتصادي، بما انتهجته من تدابير وما أقرته من قرارات ومحاذير تسعى من خلالها إلى تقليل الضرر الذي قد يحيط بها من كل جانب.

ولعل متابعة جلالته حفظه الله ورعاه لكل هذه التداعيات أسهم في التخفيف من مسار الجائحة، سواءً جائحة كورونا، أو الوضع الاقتصادي، حيث أسهمت تبرعات ودعم جلالته للصناديق التي تم استحداثها مؤخرًا في تقليل حدّة الضرر، كما أن ما انتهجه وأمر به من إعادة النظر في الموازنة العامة لدولة، وتخفيض نسبة موازنات الوحدات الإدارية للدولة والشركات الحكومية، إنما هو مسار تصحيحي يؤتي ثماره ولو بعد حين، هذا عوضًا عن إعادة الهيكلة العامة لمنظومة الجهاز الإداري للدولة، والتي بلا شك سيكون لها أثرها على الجانب الإقتصادي من خلال تقليل الإنفاق، وتوحيد القطاعات، وبالتالي تركيز جوانب ومجالات الصرف بشكل مدروس يسمح بضبط الإنفاق وترشيده.

والآن وعُمان على مشارف البدء بتنفيذ أولى مراحل وخطط رؤية عُمان 2040، فإن التطلعات المستقبلية باتت قاب قوس أو أدنى، لاسيما وأن جلالته حفظه الله ورعاه أشرف شخصيًّا على خطط الرؤية، وبالتالي فإن تنفيذ هذه الخطط لن يكون بالأمر الصعب طالما أن البناء والإعداد والتحضير لها أخذ حقه من الدراسة والعمل، كما اشتمل على كافة القطاعات.

ولا شك أن السلطنة بقيادة جلالة السلطان هيثم بن طارق حفظه الله ورعاه، على موعد مع تحولات جذرية، ولعله تم التمهيد لذلك بعددٍ من المراسيم السلطانية التي اشتملت عددًا من القوانين إضافة إلى هيكلة الجهاز الإداري للدولة، وكل ذلك سيكون له أثره سواءً كان وفقًا لخطط قصيرة أو متوسطة، أو طويلة المدى.

ويؤكد العمانيون اليوم في كل بقعةٍ من عُمان أن الولاء والوفاء لهذه الأرض مغروس فيهم، لا يمرض ولا يموت، فوطنٌ كعُمان لا يليق بشعبه إلا أن يبادلوه الإخلاص والوفاء، وكذلك هم يقدّمون لسلطانهم الولاء والإخلاص، مستشرفين بنهج قيادته إستمرار العمل على تحقيق السعادة التي وعدهم بها قابوس طيَب الله ثراه، جاعلين نصب أعينهم أنهم عونًا للقائد في اليسر والعسر، وأنهم عدّة للوطن وعتاده، في المنشط والمكره، حفظ الله عُمان وسلطانها وشعبها، وأنعم عليها بمزيدٍ من الرقي والإزدهار .