رثاء العالم للسيد سعيد بن سلطان وأوجه التشابه مع قابوس عُمان

مقالات رأي و تحليلات الخميس ٢٠/فبراير/٢٠٢٠ ١١:٢٧ ص
رثاء العالم للسيد سعيد بن سلطان وأوجه التشابه مع قابوس عُمان

نصر البوسعيدي

« قال لوالدته إنني مغادر إلى زنجبار ولا اعتقد أن بعد هذا الوداع لقاء آخر .. كان يشعر حقا أن الأجل يدنو منه بشعور يصيب كل من يقترب منه الموت .. كانت العاصفة في أشدها والأمواج العاتية ترتطم في السفينة التي تحمل على ظهرها أنين الألم الشديد الذي أصاب السيد سعيد بن سلطان نتيجة التهاب خطير لجرح قديم أصيب به في إحدى معاركه»!!

في تلك السفينة السلطانية القادمة من مسقط وهي تزف سلطان عُمان السيد سعيد بن سلطان البوسعيدي إلى عاصمة إمبراطوريته زنجبار أصبح الألم وانتفاخ ذلك الجرح القديم في تزايد وابنه برغش يحاول أن يمسح من جبينه ذلك التعرق الذي يراه لأول مرة في وجه والده المنهك، كان الجميع يأمل أن يصل إلى زنجبار ويستطيع أقلها أن يودع بقية عائلته، ولكن القدر المحتوم لا يعرف الانتظار ليسلم روحه لخالقه وينتقل إلى رحمة الله أمام بكاء كل من كان في تلك السفينة.

وما هي إلا أيام قليلة حتى وصل الجثمان إلى زنجبار وذهب به ابنه برغش ليلا إلى المقبرة السلطانية ليواري والده السلطان الثرى دون أن يعلم أحد من العائلة أو العامة لأسباب قال عنها بعضهم من أجل أن يستحوذ على الحكم بسهولة ودون ربكة من أخيه ماجد نائب والده حينها، وقال بعضهم بسبب إن الجثمان تأثر لمكوثه في السفينة عدة أيام، في الأخير ذهب مؤسس الإمبراطورية العمانية لمثواه الأخير في ظلام الليل بكل هدوء ودون أي ضجيج.

حينما انتشر خبر الوفاة بالقرب من ساعات الفجر من عام 1856م بين شعبه والذي عاش نفس اللحظات من الحزن والبكاء والشعور باليتم كحالنا تماما حينما شق ذلك الفجر من عام 2020م بخبر رحيل سيد نهضتنا قابوس بن سعيد طيب الله ثراه وأدخلهم جميعا برحمته فسيح الجنات.

لم يكن يُسمع في زنجبار وعُمان بعدها إلا نحيب البكاء وحشرجة الخوف لمصير البلاد ولمن ستذهب السلطة في هذه اللحظات الصعبة من تاريخ البلاد ..
كان الخوف فعلا في محله فبرغش أخذ يصارع أخاه ماجد للحصول على حكم زنجبار، وثويني في مسقط دخل في صراع مع شقيقه ماجد من أجل أن يحكم الإمبراطورية لينتهي الأمر بنفي برغش من زنجبار وانقسام الإمبراطورية العمانية بين ثويني وماجد بعدما أدخلا الإنجليز من أجل التحكيم بما أنهم الحليف الأقوى لوالدهم السيد سعيد بن سلطان.
وعموما أمام كل هذا الحزن وهذا الانقسام لم ينس العالم حينها من خلال العديد من الشخصيات الذين التقوا به شخصيا من تأبين رحيل ذكرى السيد سعيد بن سلطان البوسعيدي والذي دونها لنا حفيده سعيد رويت ابن ابنته السيدة سالمة لأنقل لكم بتصرف بعض كلمات التأبين التي خلدت ذكراه وعكست لنا جانبا كبيرا من شخصيته التي تشبه كثيرا شخصية أعز الرجال وأنقاهم صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد طيب الله ثراه..

ولنبدأ هنا بما كتبه الطبيب الإيطالي (فنزينزو) المعروف في عُمان باسم ( منصور) والذي أصبح فيما بعد قائدا عسكريا لقوات السيد سعيد بن سلطان في مسقط :
« إن السيد سعيد شاب يافع ذو مظهر مهيب طيب...صاحب بشرة متوردة وسلوك مقبول ذو فهم سليم...وإن حبه الدائم للعدالة ورأفته الشهيرة كان تأثيرهما لا يدركه رعاياه وحدهم فحسب بل كذلك الأرقاء التابعون له...، ولكي نحاول معرفة إلى أي حد يقوده إحساسه الشديد بالالتزامات الأخلاقية فقد أجبته أنه عندما تصبح الاهتمامات الفورية للملوك والأوطان تصبح الحاجة في بعض الأحيان لوضع الأوامر الإلهية في جانب...، ولم أكد انتهي من كلامي وإذا به قد أصابه الرعب من الآراء البغيضة فصاح بقوة بأنه قد يفقد مملكته وحياته فورا أفضل من أن يكسر أوامر الله وما يمليه عليه ضميره».

أما المستكشف والرحالة الاسكتلندي (جيمس بيلي فريزر) والذي زار مسقط والتقى السيد سعيد بن سلطان حوالي عام 1821م قال :
« إن ملابس الإمام هي ملابس العربي البسيط، ثوب من القطن مفتوح حتى الصدر ولكنه بأزرار حتى الرقبة يصل إلى الكاحل...ووشاح من القطن حول وسطه حيث استقر خنجر ذو مقبض فضي من الطراز العربي الخاص...، كان يتمتع بملامح لطيفة وبعيدا عن خشونة الطباع».

وقال ( أوين ) والذي كان يعمل ككابتن في البحرية الملكية البريطانية الذي زار السيد سعيد بمسقط عام 1822م :

« تحلى السلطان بأخلاق لطيفة ومعتدلة وصريح لا يمالق، وقد أهداه الكابتن نسخة عربية من الكتاب المقدس وقد سر السلطان لا من أجل أي إنكار للخروج عن الدين، ولكن لأنها معلنة في القرآن ككتب مقدسة تحتوي على كلمة الله، وبدوره منح السلطان للكابتن هدية تتفق مع عقيدته، سيفا نفيسا نصله من حديد دمشق وقبضته موشى بالذهب الخالص».
ويقول الكابتن الإنجليزي (جورج كيبل) الذي زار السيد سعيد كذلك في مسقط عام 1824م عن السيد سعيد :

« قد أصابتنا الدهشة لشخصية الإمام الوسيم، وزاد سرورنا بخطبته المهذبة غير المصطنعة، ورعاياه يحبونه جدا لعدالته واعتداله وهو صاحب سيرة لطيفة تسعى إلى السلام».
وأما الكابتن ( مينان )الإنجليزي الذي زار السيد سعيد بن سلطان في مسقط مصطحبا معه زوجته لكي تزور هي الأخرى السيدة عزة زوجة السلطان عام 1825م فقال:
« كان سعيد يمتلك القدرة بدرجة عالية جدا على معاملة الناس برفق، وكان مراقبا صارما لقوانين الدين الإسلامي، وكان يعلي من شأن العدالة ويصرف عنايته لتدبير القوانين المنصفة الخالية من المحاباة، وعندما يسقط أحد رعاياه في ظروف سيئة كان السلطان يقدم له قدرا من المال دون أي نوع من أنواع الفائدة، وباختصار فإنه يقدم في كل مجال تباينا حادا مع جميع الحكام العرب وأنه حقا أعظم الأسود في الشرق».

وذكر الرحالة الأوروبي ( ستوكلير ) الذي زار السيد سعيد في مسقط عام 1831م :
« أنه رجل لطيف نبيل المظهر، وحاكم عادل ومحب وشريف وأهالي مسقط ينظرون إليه بنظرة توقير وهم يؤكدون أنه رجل عادل في معاملاته وقراراته، ويتطلع بحماس إلى التطوير ومتسامح في أديان البلاد الأخرى، إن حكومة الإمام تتصف بالرقة والحساسية والأهالي الذين يعرفون حكمه يظهرون سعداء إلى حد كبير».
وكتب ( روبرتس ) وهو مبعوث الولايات المتحدة الأمريكية إلى السيد سعيد بن سلطان في عام 1833م :

« إن جميع أصحاب الأديان في نطاق دولة السلطان لا يتمتعون بالسماح وحسب، بل أن صاحب الجلالة يضعهم تحت حمايته، وليس هناك أي عقبة تمنع المسيحين واليهود والوثنيين من ممارسة شعائر ديانتهم أو إنشاء معابد لهم...، وهو محب صارم للعدالة ويمتلك النزعة الإنسانية وتحبه الرعية حبا جارفا، كما أنه يتمتع بنظرة ليبرالية عادلة فيما يخص التجارة لتشجيع الأجانب مثلهم مثل رعيته».
وحينما زار ( هارت ) أحد ضباط السلاح البحري البريطاني الملكي السيد سعيد في زنجبار عام 1834م قال :
« كان طويل القامة قوي البنية ذا مظهر رفيع مع تقاطيع الوجه التي توحي بحب الخير، وكان واضحا وذكيا ذا عين فاحصة ومناقشاته سارة ومقبولة إلى أقصى حد».
أما ( نوستر )والتي قدمت إلى مسقط بصحبة زوجها عام 1836م قال عن السيد سعيد :
« هو نموذج للأمير الشرقي الذي تجمعت فيه صفات العدالة والشجاعة والبسالة مع بساطة أبدية، وطوال فترة حكمه واتساع أملاكه لم يعدم أي شخص بسبب الدين فقد كان شديد التسامح للعقائد الأخرى، وبالرغم من أنه الرئيس الروحي لطائفته فقد كان يرمي إلى تثبيت نموذج للشعب عن طريق الملاحظة الدقيقة والفاحصة والمعاملات الدينية، وقد سمح لكل فرد بحرية الاقتراب منه، بل كان في مقدور أي متسول أن يقترب منه ويجلس في حضرته».

وهنا في هذا الوصف مثلا نجد أن هناك شبها كبيرا بين السيد سعيد بن سلطان وجلالة السلطان قابوس بن سعيد طيب الله ثراه في تسامحه ونبذه للتعصب والوصول لكل شرائح المجتمع خاصة حينما كان يتجول طيب الله ثراه بين جنبات عُمان لملاقاة شعبه في المخيمات السلطانية أو بما يسمى البرلمانات المفتوحة للجميع بكل بساطة ويسر وتواضع.
أما ( ويستلد ) وهو ضابط بريطاني في سلاح الهند البحري فقال عن السيد سعيد بن سلطان بعدما التقى به في مسقط عام 1835م :
« هو طويل القامة ذو مظهر آمر وملامح معتدلة تلفت الانتباه، وحاذق يمتلك أسلوبا لطيفا أنيسا مبجلا، وكان من عاداته الشخصية الاحتفاظ ببساطة أصله البدوي، وهو معتدل لدرجة تقترب من الزهد، ولم يتحلى بأي مجوهرات بتاتا، وكان يزور والدته صباح كل يوم، وفي جميع المناسبات لم يكن مرافقوه يشكلون موكبا فخما أو أي مظهر من المباهاة، وفي تعامله مع الأوروبيين كان دائما يعرض أقصى درجات الرعاية واللطف، وتتميز حكومة هذا الأمير بميزة اختفاء جميع الضرائب وكل أنواع العقاب الجائر، لقد كانت نزاهته وعدم تحيزه واهتمامه الدقيق الذي يوجهه للصالح العام لرعاياه زاده احتراما واعجابا لدى العرب إذ أن سخاءه وشجاعته الشخصية عززت مكانته لدى البدو، وهذه الصفات المميزة قد جلبت له في كل أجزاء الشرق لقب عمر بن الخطاب الثاني».

وأنقل لكم هنا ما كتبه الأوروبي ( شبرد ) الذي زار بمسقط السيد سعيد بن سلطان عام 1856م، وسبحان الله كم تجد ذلك الشبه العميق جدا بين هذا الوصف، وما ينطبق تماما مع وصف فقيدنا الراحل جلالة السلطان قابوس بن سعيد رحمه الله، ولا غرابة فالسيد سعيد هو جده الرابع وقد حكم كفترة حكمه المقدرة بـ 50 عاما من الحب والبناء والتسامح كأعز الرجال وأنقاهم، ولنركز هنا ما قاله شبرد في كل كلمة وهو يصف السيد سعيد بن سلطان قبل قرن من الزمان وكأنه يصف قابوس المعظم اليوم فقال :

« إن الإمام الحالي إنما هو استثناء في نظام الحكم العام للمستبدين، وقد أصبح رجلا وقورا يتمتع بحب جارف من رعيته، إنك تتقابل مع سيد صاحب نظرة رقيقة ولحية بلون الفضة البيضاء ويحييك بقبضة قوية كـ( جون بول )، أن وجهه رجولي حاد القسمات ذو حواجب عريضة وعينين رماديتين وفم مغلق تماما يحيط به شارب فضي اللون ولحية ينتهي شعرها المدبب أسفل دقنه بحوالي ست بوصات، ويتمتع سعيد بالحزم والهدف الشريف، والشعور الرقيق والتصميم، وكل ذلك مرتبط بحسن اللقاء الحقيقي وقبضة يد الدافئة التي تشعرك بالاحترام فورا، ويمتاز بتناسق أجزاء جسمه، وخطواته الثابتة المرنة...، أنه واحد من الأشخاص ذوي الطلعة النبيلة الذين قابلتهم في الشرق ولا توجد لمحة واحدة على وجهه تشير إلى أنه مذنب، فهو معتدل كريم رقيق محب لدرجة أنك تحاول تبريره وحمايته تحت ذريعة بأنه ما أقدم على ما أقدم عليه إلا بدافع الضرورة القصوى».

واختتم هنا بالدبلوماسي الفرنسي ( جوبينو ) وما كتبه عن السيد سعيد بن سلطان حينما التقاه في مسقط عام 1856م حيث دون التالي :
« كان مولانا السيد سعيد بسيطا في ملبسه مثل سائر سكان مسقط وسواحل الخليج الفارسي تماما، كان يرتدي جلبابا من القطن وعباءة سوداء من الصوف الرقيق جدا ( البشت ) ويضع على رأسه عمامة من نسيج حريري موشى بخيط ذي خطوط صغيرة بيضاء وزرقاء وحمراء، ووجه يعبر عن هدوء كامل، وابتسامة ناعمة وروحية بنوع خاص، وذو طابع لطيف المعشر ... إن وجود السيد سعيد يدل لا على إنسان عظيم فحسب ولكن على إنسان ذي خصال طيبة نادرة...، لقد كان حقا شبيها بملكى صادق ملك بيت المقدس...، أنه أمير رائع فريد من نوع الملوك الذين حكمت عليهم مواردهم الضعيفة بأن يكونوا في الغالب حكاما غير مرموقين، ولكنه بسلوكه طريقا جديدا نجح في أن يجعل الأقوياء يقدرونه».

يتشابه العظماء في كل شيء حتى في صفاتهم ونظرة العالم لهم، فمثلما أقام العالم جلسة تأبين في مقر الأمم المتحدة لتخليد ذكرى فقيدنا الراحل جلالة السلطان قابوس بن سعيد طيب الله ثراه بصفاته ومناقبه التي تشبه كثيرا صفات مؤسس الإمبراطورية العمانية السيد سعيد بن سلطان الذي كان والدا حقيقيا لرعيته من بكاه الجميع في زمانه وتم تخليد ذكراه من خلال كتابات من التقاهم وعايشوا عصره وحكمه.

المرجع :

- كتاب سعيد بن سلطان، تأليف رودلف سعيد رويت، ترجمة د.سامي عزيز، طبعة عام 1983م، وزارة التراث والثقافة – سلطنة عُمان.