د.صالح بن سعيد بن هلال الحوسني
تقتضي طبيعة خلق الإنسان حاجته إلى ما يقيم أوده وحياته، وهذه الحاجة متكررة وملحة، ودائمة؛ تؤذن بافتقار الإنسان وضعفه، ولأجل ذلك فطر الله النفوس على حب المال؛ ومحاولة تكثيره وجمع اكبر قدر منه حتى أن حبه قد وصفه الخالق المبدع الحكيم وهو الخبير بما خلق بقوله: (وتحبون المال حبا جما)، وقال أيضا: (وإنه لحب الخير لشديد)، ولذا فقد خلق الله هذا المال فتنة وامتحانا لهذا الإنسان كما قال تعالى: (ليبلوكم أيكم أحسن عملا)، ومن هنا جاءت التوجيهات الربانية موجهة لهذا الإنسان كي يتعامل مع هذا الشيء المحبوب بحذر شديد وعدم الانسياق وراءه من دون حساب وحذر وتنبه.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان في يوم القيامة ينتظره سؤالان مهمان عن المال وهما: "من أين اكتسبه وفيما أنفقه"، وحتى يكون الإنسان مستعدا لهذين السؤالين المهمين عليه أن يحذر من أي خطأ قد يقع فيه بسبب المال؛ وذلك بمعرفة كيف يكتسب هذا المال بطريقة مشروعة ترضي الله تعالى، وفي المقابل كيف يصرف هذا المال في الأوجه المشروعة النافعة الصالحة.
وحتى نحقق هذه المعادلة الدقيقة كان ولا بد لكل عاقل أن يكون على بينة بما يأتيه وما يذره من أمر المال بدون انحراف يوقعه في سخط الله وعقوبته، وينتفع من المال ليكون مسّخرا في خدمة الإنسان، موجها إلى بناء الإنسان والحضارات.. وحتى نلم شتات هذا الموضوع المهم نضع بعض النقاط التي يراعيها المسلم حول جمع المال، وكذا حول إنفاقه، ولنبدأ بالعنصر الأول:
■ ضرورة التفقه في فقه المعاملات المالية: وهذا أمر مهم، لأن الإنسان يأتي إلى الحياة لا يعرف منها قليلا ولا كثيرا، وقد أمده الله تعالى بوسائل التعليم من سمع وبصر حتى يعرف حقيقة وجوده في الحياة، قال تعالى: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون)، ولذا فإن المعاملات المالية كثيرة ومتعددة، ومتنوعة، ولذا فإن العاقل عليه أن يكون على بصيرة بما يأتيه وما يذره من أمر المال، فكل جسد نبت من سحت فالنار أولى به.
وقد يخفى حكم تلك المعاملة على الإنسان، كما قال صلى الله عليه وسلم: "الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعرفهن كثير من الناس.."، ومن هنا كان لزاما التوجه إلى من يوضح له حكم تلك المعاملة من أهل العلم كما قال تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)، ولزم على أهل العلم بيان علمهم للناس، وتوضيح ما يحل ويحرم من تلك المعاملات خاصة مع هذا العصر الذي اختلطت فيه الأمور وتشابكت وتعقدت مصالح الناس، واحتاج الإنسان أن يكون وقافا مع حدود الله ولا يجرفه حب المال ليجمع منه كل ما وجد من غير تثبت وبصيرة وعلم.
■ دعوة الإسلام الإنسان إلى العمل الشريف الذي هو أفضل الطرق لكسب المال، وفي المقابل نبذ حياة الدعة والكسل، فخير ما يكسبه الإنسان من عمل يده، ومن بات كالا من عمل يده بات مغفورا له، وجاءت التوجيهات النبوية في الحث على العمل ونبذ التواكل، وسؤال الناس.
■ الحذر من المعاملات المحرمة: حيث جاءت الأحكام موضحة تلك المعاملات حتى يحذر منها الإنسان، وهي لا شك أنها ماحقة للبركة، مجلبة لسخط الله تعالى، مسببة للضغائن والأحقاد بين الناس، ومن أخصها الربا، الذي تتعدد أشكاله وألوانه، ويدخل في طرق خفية قد لا يدركها إلا من كان بصيرا بها.
■ تجنب الاستدانة إلا للضرورة: فالدين هم بالليل وذل بالنهار، ولذا فالعاقل عليه أن يتجنبه قدر الاستطاعة، محاولا أن يقتصد في نفقاته بقدر ما يسعه حاله من المال الذي يمتلكه لما للدين من آثار دينية ودنيوية يحاول الرجل المستبصر أن يبتعد عنه مع ما تشهده إفرازات العصر من وسائل تغري الإنسان في مزيد من النفقة والاستهلاك والتنعم، وكثرة شراء الكماليات من غير ضرورة، أو حاجة.
■ الحذر من أكل أموال الناس بالباطل: فالتعدي على أموال الناس من غير وجه حق يؤدي إلى سخط الله وعقوبته، وقد حذرنا الله تعالى من ذلك فقال: (يا أيها الذين أمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم)، فلا يسوغ التعدي على أموال الآخرين إلا بوجه حق، أو تجارة مشروعة تكون بالتراضي والمعروف.
وأما في إنفاق المال فإن المنهج الإسلامي واضح في ذلك بإنفاقه في الأوجه المشروعة وتجنب أي سبيل من سبل الحرام، ومن ذلك:
■ الحذر من الإسراف والتبذير: فالتبذير وإضاعة المال محرمان في الإسلام، فمن شان المسلم الملتزم أن يكون مقتصدا، لا بخل ولا إسراف، كما قال جل وعلا: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما)، بل جاء التحذير من ذلك بوصف فاعل ذلك بأنه من إخوان الشياطين كما قال تعالى: (ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا)، يضاف إلى ذلك أن تبذير المال يوقع في مشكلات كثيرة، فالهموم النفسية المذهبة بالراحة تكون ملازمة للمسرف، فهو ينفق من غير تقدير وتفكير وحساب ونظر، فتتراكم الديون وتزيد صعوبة الحياة، ومن هنا فلا بد أن يخطط الإنسان لما سينفقه في يومه وغده مقتصرا على الأهم فالمهم مجتهدا في إكمال ما يحتاجه من مصروف بالجد والعمل بالطرق المشروعة.
■ الحث على إنفاق المال في وجوه الخير وبذله لمساعدة الناس: فقد وجهنا الشارع الحكيم للمسارعة في بذل المال وإنفاقه في سبيل الله تعالى، ورتب على ذلك الأجر الكبير، ومن ذلك قوله تعالى: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة انبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء، والله واسع عليم)، فالإنفاق في وجوه الخير المتعددة أمر يترتب عليه الأجر العظيم في الآخرة، وتتحصل منه الكثير من المقاصد التي يرتقي بها المجتمع وينشئ جيلا متحابا متعاونا.
■ الحرص على النفقات الواجبة من المال: فهناك نفقات يلزم بها الإنسان، من نحو الأنفاق على النفس، فخير ما ينفقه الإنسان هو على نفسه، ومن بعده الأنفاق على من يلزم الإنفاق عليه من الأهل والعيال، فقد جاء الحديث: "كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت"، فتوفير متطلبات الحياة الكريمة للأسرة التي يعولها الإنسان ويشرف عليها أمر لازم، وكذا كل من يلزم شرعا الإنفاق عليهم
■ دفع الزكاة الواجبة: فالزكاة ركن ركين من أركان الإسلام لا يجوز التفريط فيها ولا التهاون بها، ولأهميتها جاءت مقترنة بالصلاة في مواضع كثيرة تقديرا لحقها، وتأكيدا لمكانتها المهمة، فهي كما وصفها الله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها)، فهي طهارة للمزكي من أشكال الشح والطمع والجشع، وهي أفات خبيثة مقيتة تزرع في النفس أمراضا قاتلة مهلكة، وهي أي الزكاة تزكي النفوس المقهورة البائسة التي لا تجد ما يكفي لحاجتها وضروراتها الملحة، فيسخو هذا الغني بجزء يسير من ماله لأخيه الفقير فيسود المجتمع شعار التسامح، والتعاون، والإخاء، بجانب ما يحدثه في المجتمع من تنشيط الحركة التجارية بسبب حركة المال.
وعلى كل حال فإن المال هو وسيلة لا غاية، يستخدمه الإنسان ليقوم بما كلف به من الخلافة في الأرض، وفق توجيه الخالق الحكيم، مجتنبا كل ما يمكن أن يكون سببا لسخط الله تعالى، متهيئا للسؤالين المهمين عن المال، وهما مصدر المال، وطريقة صرفه ليكون على أفضل الأحوال قربا من الله تعالى، ووصولا إلى مرضاته.