الصمتُ.. ذكرُ الصالحين

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ٠٥/يونيو/٢٠١٨ ٠١:٥٨ ص

فوزي بن يونس بن حديد

نادرا ما تجد إنسانا صامتا في هذا الزمن، ربما ما زلنا لم نعرف أسرار الصمت وحقائقه، ولم نسبر أغواره، بل ربما صار الصمت عيبا وفضيحة، لأن الصامت هو الإنسان الجامد في الحياة ينفر منه كثير من الناس الذين تعودوا على نمط معين من الحياة، اعتادوا على اللهو والعبث واللغو والرفث، اعتاد البعض أن يمزح ويلهو ولا ضير أن يضحك الناس حتى لو كذب ليقال فلان مرح يحب الفذلكة كثيرا، ويأتونك من أبواب عدة ليدخلوك في متاهة اللغو التي لا تنقضي ولا تنتهي.
تغيّرت الأحوال وتبدّلت القيم وصار الصمت عيبا في وقت كان يعدّ ذكرا، وقد فهم الأولون معناه فلزموه، وغابت عن الآخرين تجلياته فعابوه، ولو عرفوا ما فيه من عِبر للزموه، فالصمت سَمْتُ الصالحين في الأولين والآخرين، أمر به الدين الحنيف من خلال قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت"، أراد أن يضع حدّا لمهزلة في الجاهلية سادت وراجت، وهي كثرة اللغط واللغو وإضحاك الناس بالسخرية من الآخرين إلى حد يصل إلى الابتذال في القول والفعل أحيانا، فأراد أن ينظم الحياة ويجعلها أكثر جدية وتنظيما في العلاقات بين الأفراد، فأحدث ثورة على النفس المتأججة والمتأرجحة بين اللهو والعبث والرفث، فأخرجها من الجهل إلى النور.
وفي القرآن الكريم آيات كثيرة في مواضع مختلفة تحدثت عن صفات المؤمنين، وذكرت أن الإعراض عن اللغو من أجلّ هذه السمات وأعظمها وركّز عليها الكتاب المبين لبيان أهمية الصمت، ذلك ما ذكره المفسرون والعلماء وأرشد إليه الفقهاء، فليس من طبع المؤمن أن يكون لاغيا وثرثارا يحب الكلام حلوه ومره، صالحه وطالحه، دون قيود أو ضوابط تزين هذا الخلق.
المؤمن لم يخلق ثرثارا ولا لاغيا ولا سبّابا ولا لعّانا، ولا يُضحك الناس ويمزح ويمرح بحق وبدون وجه حق، المؤمن هو الذي يعلم أن الله عز وجل عندما خلقه أراد أن يوجّهه إلى الخير ولكن الناس أنفسهم يظلمون، ويكابرون ويجحدون ويستهويهم الشيطان ويزيّن لهم الحياة الدنيا، ويفسد عليهم أثر الإيمان في القلوب، ولكن الذي يصنع الهيبة للمؤمن والثقة والأمانة عند الناس هو تزيُّنُه بالصمت حين يحبّ الكلام، لأن الصمت أحيانا ذهبٌ والصامت يصنع الحياة بفكره، يضع الحبال في موضعها لتجلب له السعادة في الدنيا والأخرى.
وما أحرانا ونحن في شهر النفحات والبركات، أن نتعلم خلق الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام والتابعين العظام والصالحين من أمة خير الأنام، كانوا لا ينطقون إلا خيرا ولا يقولون إلا حقا ولا يصدحون إلا برّا، يغلب عليهم الصمت في الحياة، وبصمتهم يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم، رسموا لنا منهجا واضحا في التعامل مع بني الإنسان في رمضان وفي غيره من الشهور، إلا أن هذا الشهر الكريم له مزايا خفيّة وتأثير قوي على النفس التي تسترخي لعبادة المولى عز وجل، وكثيرا ما كانت مدرسة الصيام عنوانا للتربية والتعليم، وكثيرا ما علم الأولون أن الحرب على النفس ستكون حامية الوطيس وأن الفائز في النهاية هو من يرفع علم الانتصار على النفس الأمارة بالسوء.
ما أحرانا ونحن نقترب من نهايته أن نكون قد تعلمنا منهج الحياة، وفضلنا أن نكون مع الله وفي قلب الحدث، وطردنا جميع وساوس الشيطان وقطعنا كل أواصر الفساد، وفتحنا الشهية للنفس بأن تقتطف من كل بستان زهرة فواحة تعبق الجسد كله فترقص كل خلية فرحا بذكر الله تبارك وتعالى، والصمت يزينها، فهو أعجوبة من العجائب الكامنة في الإنسان.