مواقع التواصل والحكومات

مقالات رأي و تحليلات الأحد ٠٣/يونيو/٢٠١٨ ٠٣:٠٦ ص
مواقع التواصل والحكومات

د. فيصل القاسم

إذا أردت أن تعرف تأثير مواقع التواصل الاجتماعي على الأنظمة العربية، عليك فقط النظر إلى العقوبات التي تنزل ببعض المغردين على تويتر ورواد فيسبوك في بعض البلدان. قبل أيام فقط ألقت الشرطة في إحدى الدول القبض على عدد كبير من المغردين والمغردات، وأصبح اعتقالهم على لسان القاصي والداني. وبالأمس أيضاً تناقلت وسائل الأنباء اعتقال السلطات لناشط إلكتروني شهير في بلد آخر. لا تستخفوا أبداً بالعصفور الصغير (تويتر)، فهو يرعب الحكومات، ويقض مضاجع أجهزة الأمن ليل نهار. ولو لم تكن تلك التغريدات الصغيرة التي لا يزيد عدد أحرفها على مائة وأربعين حرفاً ومؤخراً وصل إلى مائتين وثمانين حرفاً، لو لم تكن مخيفة ومرعبة بالنسبة للأنظمة، لما تحركت المباحث والمخابرات وألقت القبض على المغردين، وأودعتهم السجون دون محاكمة، واعتبرتهم مجرمين من الدرجة الأولى، ولما شكلت خلايا من عشرات الألوف من المغردين المخابراتيين أو ما أصبح يسمى بالذباب الإلكتروني أو الجيش الإلكتروني للتصدي للمغردين المؤثرين والتشويش عليهم وشيطنتهم. وقد عمدت بعض الدول مثلاً إلى توظيف ألوف المرتزقة الإلكترونيين كي يتصدوا فقط للمغردين والناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي ويشيطنوهم دفاعاً عن نظام الحكم ورموزه. لكن رواد المواقع باتوا يميزون أدوات المخابرات والمباحث في «تويتر» و»فيسبوك» بسهولة، وبات الجميع ينظر إليهم نظرة احتقار وازدراء.

لقد أصبحت مواقع التواصل كابوساً يؤرق الحكومات وأجهزة القمع، ويجعلها تقف دائماً على رؤوس أصابعها، لأن التغريدة أو المنشور الفيسبوكي المكتوب جيداً ينتشر على مواقع التواصل وفي الأوساط الاجتماعية والسياسية وبرامج الاتصالات كوتساب وغيره انتشار النار في الهشيم، لا بل يصبح حديث الناس في المجالس والاجتماعات والمناسبات. وكلما كان «البوست» مؤثراً ولاذعاً زاد انتشاره وتأثيره السياسي، وجعل أهل السلطة يتململون على كراسيهم. وغالباً ما نرى مغرداً معارضاً يحظى بشعبية بين الناس أكثر مما تحظى به الحكومة نفسها. أليس المغرد الفلاني الشهير أكثر شعبية وتأثيراً من كثيرين؟ ولطالما رأينا بعض الإعلاميين السوريين المعارضين يمتلكون عشرات الملايين من المتابعين على «تويتر» و»فيسبوك»، وهو رقم أكبر بكثير ممن يتابعون الحكومة وكل أعضائها وحتى كل وسائل الإعلام السورية مجتمعة. مغرد واحد أقوى من نظام كامل إعلامياً وتأثيراً، فلا عجب إذاً أن تصدر بعض الأنظمة مثلاً حكماً بالإعدام على إعلامي، مع العلم أن المتهم لم يضع يده يوماً إلا على مفاتيح الكيبورد، ولم يطلق سوى الكلمات عبر الأثير التلفزيوني، ولا عجب إذاً إن بدأت تظهر القوانين الجديدة لضبط النشر على مواقع التواصل التي تحولت فعلاً إلى ما يشبه البرلمانات الشعبية الحقيقية التي يتداول فيها الناس كل القضايا السياسية والاجتماعية والمعيشية. وهو شيء لم تألفه المجتمعات العربية من قبل. وبما أن البرلمانات العربية في بعض البلدان عبارة عن مجالس دمى تختار أعضاءها أجهزة المخابرات عادة، فقد بدأت الشعوب في زمن الانفتاح تبحث عن مجالس حقيقية توصل أصواتها إلى الحكومات بدل أعضاء مجالس الشعب الذين يعملون بوظيفة تابعين لدى السلطة بدل أن يكونوا رقباء عليها كما هو الحال في البرلمانات الغربية، حيث تلعب السلطة التشريعية الممثلة بالبرلمان دوراً رقابياً على الحكومات لصالح الشعوب. وبما أن هذا الدور ممنوع في الكثير من المجالس المسماة برلمانات، فقد راح ملايين العرب يلجؤون إلى مواقع التواصل المفتوحة لمناقشة قضاياهم والتعبير عن آرائهم بأداء الحكومات والسلطات، ومتابعة الأصوات الحرة التي جمعت حولها ملايين المتابعين.

وبما أن حرية التعبير والتنظيم السياسي معدومة في بلاد كثيرة، فقد تحولت منصات التواصل الاجتماعي أيضاً إلى منابر حقيقية لجماعات المعارضة المهاجرة، بحيث باتت المعارضة الإلكترونية قوة لا يستهان بها داخل البلاد وخارجها. ولو لم تكن مؤثرة لما هاجمها الإعلام الرسمي وشيطنها وأصدر عليها أحكاماً جائرة.

وبما أن السلطات الحاكمة في الكثير من البلدان تعلم علم اليقين أنها لا تمثل إلا نفسها، وأنها تقترف مئات الخطايا بحق الشعوب يومياً، فهي باتت تحسب كل صيحة تويترية أو فيسبوكية عليها، لهذا فهي تضرب بيد من حديد كل من يعكر صفوها أو يؤلب الشارع ضدها في مواقع التواصل. وقد أصدر البعض مؤخراً مرسوماً جديداً لإنشاء محاكم خاصة لملاحقة الناشطين في مواقع التواصل. ويتجه القضاء إلى التشدد في محاسبة الناشطين الإلكترونيين. واعتقلت بعض الأنظمة خلال العامين 2011 و2012 مالايقل عن 3500 ناشط الكتروني مع 600 آخرين ما زالوا في عداد المفقودين.
وقد أخبرني كثيرون في بعض البلدان أن مجرد وضع لايك على منشور فيسبوكي قد يودي بصاحبه إلى غياهب السجون. ولطالما اقتحمت أجهزة الأمن البيوت للقبض على شاب عمل «شير لبوست» لأحد المعاضين على فيسبوك. ولطالما حذرت سلطات الأمن أشخاصاً أعرفهم لمجرد أنهم يتابعون مغرداً على «تويتر». لكن هل تنجح الدول في وقف البرلمانات الإلكترونية بمحاكمها وقوانينها القراقوشية؟ لا أبداً، فقد فلت الأمر من أيديها تماماً في عصر السموات المفتوحة وانتشار برامج التواصل كانتشار النار في الهشيم عبر الموبايلات وأجهزة الكومبيوتر في زمن الإنترنت. وما أسهل إنشاء الصفحات عبر أسماء وهمية في مواقع التواصل ونشر كل فضائح الحكومات. الزمن الأول تحول. وإذا لم تتوفر برلمانات حقيقية تمثل الشعوب بدل أن تمثل عليها، فسيزداد الإقبال الشعبي على البرلمانات الإلكترونية وعلى منصات المعارضات عبر مواقع التواصل، وسيزداد معها رعب الحكومات وخوفها من ذلك العصفور المغرد الصغير (تويتر) وشريكه صاحب الحرف الأزرق الشهير (فيسبوك) وأمثاله.

إعلامي في قناة الجزيرة