تَغييبُ العقل العربي

مقالات رأي و تحليلات الأحد ١٣/مارس/٢٠١٦ ٠٠:٤٠ ص
تَغييبُ العقل العربي

زاهي وهبي

كلما تابعت برنامجاً ترفيهياً من برامج "الترفيه" التلفزيونية الدارجة هذه الأيام خطر في بالي سؤال مقلق مفاده لماذا لا تنفق الفضائيات العربية على البرامج الثقافية واحداً في المئة مما تنفقه على التسلية والترفيه التي تكلفها ملايين الدولارات؟ أو مما تنفقه على برامج التحريض السياسي وتثوير العصبيات القاتلة؟ قبل محاولة البحث عن اجابة للسؤال الذي يدور في أذهان كثير من مشاهدي التلفزيون، نسارع الى القول إننا لا نعارض برامج التسلية والترفيه ولا ندينها ونعرف أنها ضرورية للمشاهد ضرورةَ الثقافة نفسها خصوصاً في هذا الجزء من العالم حيث الحروب الطاحنة والأزمات الشائكة والضغوط اليومية التي تجعل حاجته ماسّة الى فسحة تنسيه ولو قليلاً بعضاً من همومه وشجونه. ملاحظاتنا تتمحور حول طبيعة ما يُقدَّم أحياناً تحت مُسمَّى الترفيه فيما الترفيه بريء منها براءة الذئب من دم يوسف، أو في عدم التوازن بين التثقيف والترفيه في الانتاج والبثّ التلفزيونيين.
رُبَّ قائل ليس وظيفة التلفزيون تثقيف الناس بل تسليتهم. ربما كان هذا القول صحيحاً لو كانت مجتمعاتنا مستقرة مزدهرة متجاوِزة لكثير من مشاكلها وأزماتها، لكن في بلاد كبلادنا التي لا تزال تعاني من مشكلات حيوية مثل الأمية والبطالة والفقر والتطرف والارهاب تغدو وسائل الاعلام منابر ضرورية للمساهمة في التنوير المُلِحّ والمطلوب عِوَض أن تكون منابر للتحريض وبثّ سموم الفتن والتفرقة كما هو حاصل حالياً. أليس غريباً ومريباً أن يكون عدد الفضائيات العربية نحو ألفي فضائية فيما البرامج الثقافية تُعد على أصابع اليد الواحدة؟ لسنا من الذين يحبذون إلقاء كل مشاكلنا على نظرية المؤامرة، لكن يحق لنا الاستغراب حين يتلكأ أصحاب المال من مالكي شركات الانتاج الكبرى والفضائيات العملاقة وشركات الإعلان عن عن توظيف قرش واحد في البرامج الثقافية الجدية والعميقة التي تحترم عقل المشاهد العربي وتُخاطِب وعيه لا عصبياته، هنا تقفز علامات الاستفهام من تلقائها، والجواب هو أن هذا الخلل ناجم عن الجهل أو التجاهل لقيمة الثقافة ودورها في حياة الأمم، وفي الحالتين المصيبة أعظم.
أيضاً رُبَّ قائل إن أصحاب الرساميل يتجنبون الاستثمار في الثقافة لأنها غير جذّابة للمشاهدين والمعلنين على السواء. قد يكون في هذا القول بعض الصحة لو اعتبرنا أن البرنامج الثقافي بحسب الصورة النمطية المرسومة في الأذهان عبارة عن مذيع متجهم يتحدث بلغة قاموسية مقعَّرة وضيف يردد كلاماً نخبوياً غامضاً مبهماً، هذه الصورة النمطية قديمة ومتخلفة للبرنامج الثقافي التلفزيوني الذي في الإمكان تطويره مثلما تطورت صناعة التلفزيون بشكل عام. ما نقصده بالبرامج الثقافية برامج تناقش أزماتنا ومشاكلنا بعيداً من الخطاب السياسي السطحي الممجوج والمشروخ، وبعيداً من صراع الديكة الذي يساهم في التجهيل لا في التنوير، برامج تطرح بصراحة وشفافية وعمق أسباب الأمية والجهل والبطالة والفقر والتطرف والارهاب، تناقش لماذا يتراجع منسوب القراءة عند العرب ويرتفع منسوب الاستهلاك؟ لماذا تغيب مراكز البحث العلمي التي لا يمكن التقدم قيد أنملة من دونها؟ لماذا تتخلف مناهج التعليم ولا تواكب المستجدات في العالم؟ لماذا لا يحظى المبدعون العرب بما يستحقون من اهتمام؟ لماذا لم تصل (مثلاً) السينما العربية الى العالمية الا نادراً؟ لماذا تراجع مستوى الغناء العربي شكلاً ومضمونًا ؟ما هي أهمية المصطلحات في ترسيخ المفاهيم؟ ما هو تعريف الارهاب والمقاومة والثورة والحريّة؟ متى يكون فعلٌ ما ارهاباً ومتى يكون مقاومة وثورة؟ وقبل كل ذلك لماذا عجزت مجتمعاتنا عن بناء الدولة الوطنية الحديثة وأي مسؤولية للاستعمار والاستبداد في ذلك؟ وسواها من قضايا جديرة بأن توضَع على بساط البحث، لأن غيابها يساهم في تغييب العقل العربي.
لا يبرِّرنَّ أحد تخاذل صنّاع المادة التلفزيونية عن الانتاج الثقافي الابداعي ببعض البرامج التي تتضمن معلومات عامة مثل برامج المسابقات، أو المنافسات الشعرية على لقب من هنا وآخر من هناك، والقول انها برامج ثقافية. هي برامج جيدة تتضمن جانباً ثقافياً، لا نعارض وجودها ولا نستنكرها، لكنها لا تمثل البديل عمّا نقترحه ونطالب به. من الواجب والضروري أن تتسع شاشة التلفزيون لأصوات المبدعين العرب من مفكرين وأدباء وشعراء وكتّاب مسرح ودراما ومختلف العاملين على انتاج نص إبداعي عربي، وما أكثرهم، لكنهم للأسف مغيبون لأن المطلوب تغييب العقل العربي. اذ كيف يمكن لمشاريع الفتن والتجزئة والتقسيم أن تمر لو كان العقل العربي حاضراً ناضراً واعياً مدركاً لما يدور حوله ويدور عليه؟
نؤمن إيماناً راسخاً أن لا خلاص لنا مما نحن فيه بغير تراكم الوعي والمعرفة، وللتلفزيون _ كما وسائل الاعلام الأخرى _ دور في هذا الأمر لا يجوز تغييبه، أو تجويفه كما يحصل الآن. لا تتقدم الأمم ما لم تحترم عقلها، وخير مَن يُعبِّر عن العقل الجمعي للمجتمعات هم المبدعون فكراً وأدباً وفناً وهي غير تلك الرائجة في شاشاتنا هذه الأيام.
حين يَغِيب أو يُغيَّب العقل العربي من البديهي ساعتها أن يعمَّ الجنون المسعور القاتل كما هو حاصل الآن.