حكاية السجين الواعظ

مقالات رأي و تحليلات السبت ١٢/مارس/٢٠١٦ ٢٣:٥٥ م
حكاية السجين الواعظ

احمد المرشد

تقول الحكاية أن السجناء كانوا يعانون من قسوة حراس أحد سجون ألمانيا الشرقية في حقبة الحكم الشيوعي في الستينيات ، وبالتالي كانت المعاملة أسوأ ما تكون، فلا رياضة أو ترفيه أو زيارات عائلية، فالسجن عبارة عن مقبرة للجميع ربما للحراس أنفسهم، باستثناء سجين واحد فقط يدعي شميدت أدرك منذ دخوله السجن كيف يتعامل مع الحراس ربما ليخفف عن نفسه فترة سجنه الطويلة.

لقد حصل شميدت على إمتيازات جيدة ومعاملة أقرب للاحترام من قبل حراسه ورؤسائهم، بصورة جعلت بقية السجناء يشكون في زميلهم ، وكان سؤالهم فيما بينهم :" ربما كان شميدت مخبرا من السجن بيننا ، فكل ما يحصل عليه من امتيازات تؤكد إنه عميل مزروع وسطهم". ولم يفلح قسم شميدت لزملائه بأنه لا يرتبط بأي علاقة بالأجهزة الأمنية ، وأنه سجين مثلهم.

مهما حلف شميدت للسجناء بأغلظ الأيامين فهو كاذب بنظرهم، فالعين تكذب ما يقوله والمعاملة التي يلقاها فوق العادة جعلت بقية السجناء لا يصدقون زميلهم السجين. حتي اتفقوا ذات ليلة وهو مشغول عنهم بسؤاله مباشرة عن سبب معاملة الحراس الحسنة له في حين يعانون هم الأمرين والجلد والضرب والتعذيب. في الواقع، ألح السجناء كثيرا علي شميدت ليفصح لهم عن سر هذه المعاملة المميزة وكأنه غير محكوم عليه في قضايا سياسية تعتبرها حكومة المانيا الشرقية آنذاك من كبري الجرائم وتصل الي حد الخيانة العظمي، مما يستوجب تلقيه تعذيبا وضربا كل دقيقة .

ألح السجناء كثيرا ولكن شميدت رفض مرارا أن يفصح لهم عن سر هذه المعاملة له، الي أن ضغطوا عليه بشدة ويبدو أنهم هددوه إذا لم يكشف لهم السر فأضطر صاغرا للبوح بما خفي عنهم، فسألهم: " أخبروني أولا ماذا تكتبون في رسائلكم الأسبوعية لأقاربكم؟"..فأجابوا جميعا قائلين في نفس واحد:" نحكي في رسائلنا عن قسوة السجن والظلم الذي نتكبده هنا على أيدي هؤلاء الحراس الملعونين".. وهنا كانت المفاجأة بعد أن كشف لهم الحقيقة وفي الواقع لم تكن مرة أو مريرة وإنما تنم عن ذكاء فطري خارق استأثر هو به عمن سواه، فقال شميدت:" أنا عكسكم تماما حيث أحكي في رسائلي الأسبوعية لأسرتي وأقاربي عن محاسن السجن والحراس ومعاملتهم الجيدة هنا وحتى أنني أحيانا أذكر أسماء بعض الحراس الشخصية في رسائلي وامتدحهم كذلك".. وهنا قاطعوه بشدة ليسألوه مجددا : "وما دخل هذا كله في الامتيازات التي تحصل عليها وأنت تعلم إن معاملتهم قاسيه جدا؟".

استطرد السجين شميدت رغم استيائه بسبب مقاطعتهم له قائلا:" ولم لا امدحهم!.. ورغم أني سجين مثلكم والسجن حياته صعبة وأيامه مريرة ومرة إلا أني فكرت في هذه الوسيلة ليقيني التام بآن رسائلنا لا تمر مرور الكرام من بين أيدينا لأسرنا مباشرة ، فهي تمر عبر وسائل تفتيش وتحري ودراسة معمقة لما نكتبه هنا ، حتي أننا مثل الكتاب المفتوح للحراس ومسئولي السجن الأعلي مستوي، فهم يعرفون عنا أكثر مما نعرف عن بعض، نظرا لما نكتبه في خطاباتنا لأقاربنا، وهم يحللون هذا، فمن كتب مدحا فيهم لاقي معاملة حسنة ، ومن ذمهم فليس منهم بطبيعة العال ويكون جزاؤه التعذيب والضرب والإهانة".

وهنا فهم الجميع مضمون الرسالة وفكروا مليا في تغيير إسلوب خطاباتهم القديم ليقلدوا زميلهم المميز جدا شميدت، وانتظروا النتيجة الايجابية لتغير نمطهم القديم وغاصوا جميعا في أحلام يقظة وكيف ستتبدل أحوالهم من النقيض للنقيض لينعموا بأيام سعيدة داخل محبسهم. غير أن النتيجة كانت مغايرة تماما لهم بل ومفاجأة غير سارة بالمرة، بعد طول أحلام وانتظار لتحسن المعاملة حيث طبقوا النصيحة بحذافيرها وزادا عليها ، إلا معاملة الحراس للسجناء تغيرت ولكن ليس للأفضل بل للأسوأ،والمفاجأة الأكبر أن هذه المعاملة طالت شميدت نفسه ولم يعد مميزا بل نال معاملة أقسي أنسته ما فات من أيام كانوا يحترمونه ويعاملونه برفق ولين.

هذا التغير الصعب دفع شميدت لسؤال ممن أفشي لهم بسره :" ماذا فعلتم لتتغير المعاملة هكذا ؟".. ويبدوا إنه بذكائه الفطري أدرك خطأهم فسألهم :" ماذا كتبتم في رسائلكم الإسبوعية لأسركم؟". إجابة السجناء كانت مفاجأة لشميدت ومفجعة في نفس الوقت، حيث ردوا جميعا :" كتبنا أن شميدث علمنا طريقة جديدة لكي نخدع الحراس الملاعين ونكسب ثقتهم ورضاهم وذلك بمدحهم بالكذب في الرسائل الأسبوعية!".. فما كان من شميدت إلا أن لطم خديه حسرة علي ندما علي ما قاله لهم، واندفع فيهم كالمجنون وهو يصرخ ": هذا جزائي يا أغبياء، ألم أقل لكم إن الرسائل تُقرأ من قِبل الحراس ، ورغم ذلك ذكرتم كل ما قلته لكم في رسائلكم.. بل لم تكتفوا بذلك حتى ذكرتم اسمي في رسائلكم وكشفتم حيلتي" ..المهم أن الجميع دون إستثناء عاني من ويلات التعذيب والقمع، بل كان أكثرهم هذه المرة شميدت نفسه صاحب النصيحة.

الهدف من الحكاية، أن النصيحة مطلوبة وجميل أن نسدي النصائح لغيرنا خاصة في أوقات المحن والشدائد والمصائب، فهكذا علمنا الدين السمح، فكل ما جاءت به السنة النبوية كانت عبارة عن أجوبة علي أسئلة ونصائح للصحابة وعموم المسلمين لتكون لنا سنة محفوظة ليوم الدين. ولكن في حالة شميدت وغيره، فكان حريا به أن يدرك أن سره لو أفشاه لشخص واحد فقط فكأنه أفشاه للجميع، وهكذا كانت النتيجة الطبيعية، حيث انقلب عليه الحراس ليحولوا حياته الي جحيم وعذاب بعد المعاملة المحترمة، وكان حريا بشميدت هو وغيره يعرف مع من يتكلم، لأن ليس كل مستمع حافظ للسر، ولعل البعض يسئ التصرف بدون قصد أو عمد ، فتكون النتيجة كما رأيناها شاخصة في حالة المدعو شميدت الذي وثق في البعض فأضروه.

ربما يقع الخطأ علي شميدت نفسه لأنه فكر بالطريقة التقليدية ولم يجتهد في البحث عن حلول جديدة لخدمة زملائه السجناء، ولو فعل هذا لتجنب الحرج وفي نفس الوقت قدم لهم خدمة جليلة ساعدتهم في التغلب علي مصائبهم بدلا من مضاعفة تلك المصائب والمعاناة.

حكاية شميدت والسجناء ليس الغرض منها سردها لمجرد السرد، فما أحوجنا نحن معشر البشر أن نبحث بحق عن حلول خلاقة لمشاكلنا ، وأن نفكر بطريق جديدة غير تقليدية، فكل مشكلة لها حل كما هو معروف، ولكن ربما كان هناك حلول متعددة لنفس المشكلة، لأن ما يصلح معي لا ينفع غيري وهكذا.. وعلي سبيل المثال، عندما يشكو الإنسان لصديق له من هجر حبيبته له، فيسارع هذا الصديق لإلقاء نصيحته فورا وربما تكون قاتلة وفي غير محلها، وربما اعتمد هنا علي تجربته الشخصية في الحب والهجر ولم يراع اختلاف الحالة. وهنا يتطلب الموقف اختيار الشخص المناسب لسؤاله النصيحة الأمينة.

فكما تختلف بصمات أصابعنا ، تختلف نوايانا ومشكلاتنا، حتي الحلول تختلف وتتمايز من أزمة لأخري، فهيا بنا نبحث عن حلول خلاقة لحياتنا كي نسعد بها، ولعل من أهم الحلول ألا نضيق بهذه الحياة، فما أرحبها دنيا وما أسعدها إذا نظرنا إليها بسعادة.

وأخيرا، يقولون "ياما في السجن مظاليم"..ونرد عليهم "ياما في السجن مواعظ ودروس".

كاتب ومحلل سياسي بحريني