نحو اقتصاد أكثر حيويةً ومرونةً وشباباً

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ٢٨/مايو/٢٠١٨ ٠٣:١١ ص
نحو اقتصاد أكثر حيويةً ومرونةً وشباباً

محمد محفوظ العارضي

تجاوزت الظروف الاقتصادية الراهنة تلك السياسات التي كانت متبعة سابقاً من جانب بعض الحكومات والقاضية بتوظيف كل الخريجين الجدد في القطاع الحكومي والعام، وأصبح القطاع الخاص الرهان الرابح القادر على استيعاب هذه الطاقات الشابة سواء في مؤسساته وشركاته القائمة أو عبر تشجيع الشباب على بدء مشاريعهم الخاصة.

ورغم حتمية هذا التحوّل في سياسات التوظيف بسبب المتغيّرات الاقتصادية الحاصلة في منطقتنا، والزيادة المطردة في أعداد الداخلين الجدد إلى سوق العمل بما يفوق قدرة المؤسسات الحكومية على استيعابهم، إلا أن النظرة إلى وظائف القطاع الخاص تحمل -للأسف- قدراً من الدونية لدى قطاعات واسعة من المجتمع مقارنة بمثيلاتها الحكومية.

وساهم ذلك، بالإضافة إلى عوامل أخرى كثيرة أبرزها تعدد الامتيازات التي يحصل عليها العاملون في المؤسسات الحكومية والعامة، في استمرار عزوف الشباب عن العمل في القطاع الخاص، ناهيك عن التفكير في بدء مشاريعهم الخاصة خصوصاً هؤلاء الباحثين عن الأمان الوظيفي، والذين لا يرغبون في تحمّل أي قدر من المخاطرة المحسوبة في ما يتعلق بمستقبلهم المهني، وذلك على الرغم من تعدد النماذج الناجحة محلياً وعالمياً لخريجين جدد فضّلوا أن يكون مصيرهم المهني والوظيفي بأيديهم وبدأوا مشاريعهم الخاصة منذ اليوم الأول لانضمامهم إلى سوق العمل، وتحوّلوا إلى أرباب أعمال يعمل لديهم العشرات بل المئات من الموظفين، وأصبحوا ملاك شركات يجنون الملايين بدلاً من اتخاذهم المسار المعتاد الذي ما زال القطاع الأوسع من الشباب يفضّلونه وهو الوظيفة التقليدية وانتظار الراتب الشهري الذي يكفي احتياجاتهم والتزاماتهم المالية والعائلية بالكاد ومن دون أي أمل في حدوث طفرات مالية أو وظيفية.
واتخذت مسألة عزوف الشباب عن وظائف القطاع الخاص أو المبادرة بتأسيس مشاريعهم الخاصة أبعاداً مؤثرة، كان لها تداعياتها السلبية على مسيرة النمو الاقتصادي في السلطنة، فبعد التراجع السلبي للنمو في الناتج الإجمالي العام 2017، أصبحت الجهات المعنية مطالبة بإعطاء أولوية للإصلاحات الاقتصادية التي تعزز نمو القطاع الخاص وإنتاجيته وقدرته التنافسية بالإضافة إلى التعجيل بتنويع الأنشطة الاقتصادية، ومنح دور أكبر للقطاع الخاص من أجل تنشيط الاقتصاد. كما أكدت بعثة صندوق النقد الدولي بعد زيارتها الأخيرة إلى السلطنة أن التنويع الاقتصادي، وإيجاد فرص عمل للمواطنين يعد أمراً بالغ الأهمية في عُمان، وكذلك الأمر بالنسبة إلى مواءمة الأجور في القطاع العام والاستفادة من قدرات القطاع الخاص.
ورغم التحسن الحادث في أسعار النفط منذ مطلع العام الجاري، وأثره الإيجابي المتوقع على خفض عجز الموازنة، إلا أنه أصبح من الضروري التحرك سريعاً لاستكمال البنية التشريعية والقانونية لمنح دور أكبر للقطاع الخاص وتحفيز المشاريع الصغيرة والمتوسطة، عبر إصدار وتفعيل القوانين المتأخرة ذات العلاقة مثل قانون الاستثمار وقانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص وقانون العمل، فالمتعارف عليه أن الوظيفة الأساسية للحكومات هي توفير البيئة المناسبة لإنعاش الأعمال وجلب الاستثمارات محلياً وخارجياً.
وتنبع أهمية هذه الخطوة من ضرورة تجنب أي عجز متوقع في الموازنة ربما ينتج من أي تقلبات مستقبلية في أسعار النفط، فوفقاً للبيانات المعلنة فإن العجز المتوقع في الموازنة المعتمدة للعام 2018 يبلغ نحو 3 بلايين ريال عماني، وذلك على أساس سعر 50 دولاراً لبرميل النفط، علماً بأن السعر الذي يغطي أجور ورواتب الموظفين يجب ألا يقل عن 60 دولارا للبرميل الواحد، بينما سعر تعادل الميزانية 74 دولارا للبرميل.
ولذا أصبح من المهم الإسراع بالتفكير في حلول ناجعة لإعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة بما يخفض قدراً كبيراً من النفقات غير الضرورية في الموازنة العامة، ولا تكون له، في الوقت نفسه، آثار جانبية أو أضرار تقع على الموظفين.
وبالتوازي مع ذلك، أصبح من المهم التفكير في حلول مبتكرة لتنويع الاقتصاد والخروج من عباءة النفط عبر تنشيط القطاعات غير النفطية مثل السياحة والصناعة والخدمات المالية وغيرها، وفتح المجال أمام القطاع الخاص ليكون له دور أكبر خلال المرحلة المقبلة، وكذلك تشجيع الأفكار الإبداعية للشباب في مجالات ريادة الأعمال والاقتصاد الرقمي الذي يكتسب أرضاً جديدة كل يوم في المنطقة والعالم.
وهنا تبرز الأهمية القصوى لدعم المؤسسات التي أطلقت مبادرات هادفة إلى تطوير مهارات الشباب العُماني من الباحثين عن فرص عمل مثل مؤسسة «رؤية الشباب» وما ينبثق عنها من مبادرات مثل «تقدر».
بل يمكن القول إن الاستثمار في دعم هذه المؤسسات والمبادرات أجدى وأكبر عائداً بكثير من ضخ الأموال في محاولات إيجاد وظائف حكومية أو حتى إعادة تأهيل موظفين حكوميين للقيام بمهمات وظيفية أخرى.
وأهم ما يميز مبادرة «تقدر» أنه تم تصميمها لسد الفجوة بين ما يتوقعه الباحثون عن عمل من إمكانيات يمتلكونها وبين احتياجات أصحاب العمل من المهارات كالتحليل النقدي والمنطقي ومهارات التواصل بنوعيه الشفهي والكتابي بأكثر من لغة وتحديد الأولويات عند تنفيذ المهمات، وفيها يمر المشارك بمراحل مختلفة وتحديات عديدة في فترة زمنية محددة بأسلوب شبابي يجمع بين المناقشة والمنافسة، بالإضافة إلى أن البرامج المنضوية ضمن المبادرة تحاول تغيير الثقافات والمعتقدات الخاطئة لدى الشباب بخصوص الوظائف وبيئات العمل المختلفة والتدرج المهني وغيرها.
إن مثل هذه المبادرات، والدور المهم المنوط بمؤسسة «رؤية الشباب» بما تحمله من فكر مبدع خلاق هو ما نحتاجه خلال الفترة المقبلة لجعل اقتصاد السلطنة أكثر حيويةً ومرونةً وشباباً، وأيضاً أكثر قدرة على التعامل مع المتغيّرات العالمية والإقليمية المحيطة اقتصادياً وسياسياً.
ويمكن القول إن تبنّي هذه المؤسسات والمبادرات وتقديم الدعم والتمويل اللازمين لها هو أفضل استثمار في توظيف الشباب بكل قدراتهم وطاقاتهم الإبداعية بما يصب في صالح الاقتصاد الوطني بنهاية المطاف، والعكس صحيح.

رئيس مجلس الإدارة التنفيذي في إنفستكورب

محمد محفوظ العارضي