اقتصاد جديد لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ٢٨/مايو/٢٠١٨ ٠٣:١١ ص

رباح أريزكي وحافظ غانم

تمتلك بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا كل المُقوِّمات اللازمة للقفز إلى المستقبل الرقمي.

فشريحة كبيرة من سكانها من الشباب الحاصلين على تعليم جيد ويجيدون استخدام التقنيات الرقمية وتقنيات الهاتف المحمول على نطاق واسع. وينطوي هذا المزيج على إمكانيات هائلة كمحرِّك للنمو وإيجاد الوظائف في المستقبل. ولكن هل هو حقاً كذلك؟ إن الإنفاق العام -وهو محرك التنمية في المنطقة على مر التاريخ- قد بلغ أقصى حدوده. ولم يعد بمقدور القطاع العام استيعاب الأعداد المتزايدة من خريجي الجامعات، وتواجه منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الآن واحداً من أعلى معدلات البطالة في صفوف الشباب في العالم. ويُبشِّر الاقتصاد الرقمي بمسار جديد نحو المستقبل، لكنه ما يزال في مراحله الأولى، ويواجه الشباب عقبات في استخدام التكنولوجيا استخداماً منتجاً.

ومع أن شبكة الإنترنت والأجهزة المحمولة واسعة الانتشار في أرجاء المنطقة، فإنها تُستخدَم في الوقت الحالي في الوصول إلى مواقع التواصل الاجتماعي لا في إطلاق مشروعات أعمال جديدة. ولكن تلوح في الأفق كوادر واعدة. على سبيل المثال، بدأ تطبيق كريم لخدمات النقل والتوصيل كمشروع ناشئ، وأصبح الآن شركة بقيمة بليون دولار توفر آلاف الوظائف في 80 مدينة في أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وفي باكستان وتركيا. وتربط منصات الوظائف الرقمية الجديدة بالفعل بين الباحثين عن وظائف وأرباب الأعمال، وتُقدِّم التدريب المهني، وحاضنات أنشطة الأعمال والشركات الناشئة. ويكمن التحدِّي الآن في تهيئة الظروف المواتية لهذه الكوادر المبشرة كي تنمو وتتكاثر.
والخطوة الأساسية الأولى هي أن تصبح بلدان هذه المنطقة «مجتمعات تعلُّم»، وهو تعبير صاغه عالم الاقتصاد الحائز على جائزة نوبل جوزيف إستجليتز لوصف البلدان التي يُؤدِّي فيها تبادل المعارف إلى تعزيز الابتكار والإبداع. ويساعد هذا بدوره على النهوض بالتنمية، وفيما يتعلق بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا فإن هذا قد يؤدِّي إلى قيام اقتصاد خدمات مفعم بالحيوية والنشاط. ولبلوغ هذه الغاية، يجب أن تتغيَّر النُظُم التعليمية. وبالنسبة للشباب في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، أصبحت مناهج التعليم مصدراً للإحباط وخيبة الأمل في أغلب الأحيان وليس سبيلاً إلى التقدُّم والرقي.
ووفقاً لمفهوم «علاوة المهارات»، وهي الفرق في الأجور بين العمال المهرة والعمال غير المهرة، من المفروض أن تؤدي زيادة مستوى التحصيل العلمي للطالب إلى زيادة الوظائف ذات أجور الأعلى والأكثر استقرارا. ولكن في المنطقة يحدث العكس، فاحتمال انضمام خريجي الجامعات إلى صفوف الباحثين عن العمل يزداد بدرجة كبيرة عما هو الحال للعمال الذين لم يحصلوا إلا على تعليم أساسي.
وثمة عاملان يؤثران سلباً على مصلحة الشباب في المنطقة، الأول هو أن المدارس ما زالت تستهدف توصيل الخريجين إلى القطاعات العامة الكبيرة، وهو ما يعني أن تركيزها أقل على مجالات مثل الرياضيات والعلوم.
والثاني هو أن القطاعات العامة المترهِّلة تزاحم القطاع الخاص، الذي سيكون في غير هذه الأوضاع مصدراً أكبر لتهيئة وظائف عالية المهارات ومرتفعة الأجور.
ونظرا لأن اقتصاد المستقبل سيحتاج إلى عمال ذوي مهارات تقنية، يجب إعادة توجيه المناهج التعليمية نحو موضوعات (العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات)، وبعيدا عن الدراسات الاجتماعية التي يُفضِّلها أرباب أعمال القطاع العام منذ وقت طويل.
وعلاوةً على ذلك، يجب أن تُركِّز النُظُم التعليمية على تشجيع مزيد من الانفتاح على الابتكار وتحمُّل المخاطر، في تحوُّل مهم عن الاتجاهات التي تولَّدت في ظل نظام المحسوبية في القطاع العام.
وعلى وجه التحديد، سيتطلَّب التوجُّه نحو «مجتمع التعلُّم» القائم على الابتكار أن يشحذ الطلاب مهاراتهم في التفكير النقدي والإدارة في إطار ترتيبات عمل تعاونية.
وبالإضافة إلى المهارات، سيحتاج الاقتصاد الرقمي أيضا إلى بنية أساسية تقنية. وتحقيق الترابط مُتطلَّب أساسي من متطلبات تقديم خدمات الهواتف المحمولة والرقمية الجديدة في مجالات التجارة الإلكترونية، والتدريب المهني، والرعاية الصحية، والتمويل، وهي مجالات قد تؤدي جميعا إلى تعزيز كبير لمستويات الرفاهة العامة. ولذلك، يجب على بلدان المنطقة التركيز على تيسير الوصول إلى خدمات الإنترنت ذات النطاق العريض. ويتيح وجود بنية أساسية للتعليم والإنترنت المُوجَّهة نحو الاستخدام المنتج إرساء الأساس لاقتصاد جديد. ولكن تحقيق نمو مستدام في المنطقة سيتطلَّب أيضا تحسين الأنظمة المالية. ويعتمد الاقتصاد الرقمي على أنظمة دفع ليس من السهل استخدامها وغير متاحة على نطاق واسع، لكنها جديرة بالثقة. وسيكون وضع نظام فعَّال لعمليات دفع وتحويل الأموال فيما بين الأشخاص (P2P) مثل نظام «MPESA» في كينيا الذي لا يتطلب وسيطا ماليا مهما وحاسماً لضمان ازدهار المنصات الرقمية مثل تلك التي تتعلق بخدمة مشاركة الركوب في السيارة، والمهمات الأخرى حسب الطلب، وغيرها من الخدمات.
باستثناء بلدان مجلس التعاون الخليجي التي تمتلك حاليا أنظمة دفع متقدمة نسبياً، تتسم جودة الخدمات المالية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بأنها متأخرة حاليا عن معظم البلدان في بقية أنحاء العالم.
وما لم تحدث تحسينات في النظام المالي، والقطاع المصرفي على وجه الخصوص، لن يتسنَّى إطلاق الإمكانيات الهائلة لرأس المال البشري في المنطقة.
وأخيراً، يجب على الحكومات أن تضع نهجاً لإعداد اللوائح التنظيمية يُشجِّع على الابتكار. ولا ريب أن تحقيق الثقة لاسيما في الأنظمة المالية أمر ضروري، لكن اللوائح التنظيمية يجب أن تكون متوازنة، بحيث تعزز سياسات المنافسة حتى تستطيع منشآت الأعمال المبتدئة دخول السوق واختبار أفكار جديدة. ويجب أن يتاح مجال أكبر لظهور شركات جديدة مثل كريم. وينبغي لواضعي السياسات أن يتطلعوا إلى نموذج كينيا في تخفيف اللوائح التنظيمية مع ضمان فعاليتها الذي ساعد على تعزيز النمو السريع لنظام «MPESA».
وسيتطلَّب اغتنام الفرص التي يتيحها الاقتصاد الرقمي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا دفعة كبيرة. وسيتعيّن على واضعي السياسات العمل على العديد من الجبهات، وفي الوقت نفسه ضمان أفضل استخدام لكل الأدوات المتاحة.
وكلما بادروا باتخاذ هذه الخطوات، زاد احتمال أن يتغلَّب شباب اليوم على الإقصاء الاقتصادي، وأن يغتنموا المزيد من الفرص لإطلاق الإمكانيات الكامنة لهم وللمنطقة.

رباح أريزكي - كبير الاقتصاديين في البنك الدولي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

حافظ غانم - نائب رئيس البنك الدولي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

رباح أريزكي وحافظ غانم