وقفة أوروبية أمام ترامب

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ٢١/مايو/٢٠١٨ ١٤:٥٨ م
وقفة أوروبية أمام ترامب

جيفري ساكس

يهدد نبذ دونالد ترامب لخطة العمل الشامة المشتركة مع إيران، وإعادة فرض العقوبات الأمريكية على ذلك البلد، بتقويض السلام العالمي. ويعتمد أمن أوروبا على الدفاع عن الاتفاق مع إيران على الرغم من انسحاب الولايات المتحدة. وهذا بدوره يتطلب العمل من قِبَل أوروبا، إلى جانب روسيا والصين وغيرهما من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، على ضمان تطور العلاقات الاقتصادية مع إيران. ولن يتسنى هذا إلا إذا واجهت أوروبا، وأسقطت في نهاية المطاف، العقوبات التي تفرضها أمريكا خارج حدودها، والتي تستهدف ردع الأنشطة التجارية والمالية مع إيران من قِبَل جهات غير أمريكية.

الغرض من وراء تحرك ترامب واضح وصريح حقا: إسقاط النظام الإيراني. وإزاء هذه الحماقة، يشعر المواطنون الأوروبيون بحق بأن مصالح أوروبا الأمنية لم تعد تتفق بشكل وثيق مع مصالح الولايات المتحدة.

الواقع أن نهج البلطجة الأمريكية في التعامل مع إيران نال تأييد ــ بل مناصرة ــ حليفين للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، إسرائيل والمملكة العربية السعودية. إذ تستحضر إسرائيل قوة الولايات المتحدة لتجنب الاضطرار إلى تقديم أي تنازلات مع الفلسطينيين. وتستدعي المملكة العربية السعودية القوة العسكرية الأمريكية لاحتواء منافستها الإقليمية إيران. وكل منهما يتمنى لو تشن الولايات المتحدة حربا مباشرة ضد إيران.
أسفرت محاولات أمريكا الفائتة لتغيير الأنظمة في الشرق الأوسط عن نتائج مروعة للولايات المتحدة وأوروبا (ناهيك عن الكوارث التي حلت بالبلدان التي انزلقت إلى الفوضى التي أحدثتها الولايات المتحدة). كانت «حروب الاختيار» هذه العامل الرئيسي وراء زيادة تدفقات الهجرة إلى أوروبا من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وحتى عندما «نجح» تغيير الأنظمة كما حدث في أفغانستان، والعراق، وليبيا، كانت العواقب العنف وعدم الاستقرار. وعندما فشل تغيير الأنظمة، كما حدث في سوريا، كانت الحرب المتواصلة هي النتيجة.
كان الفشل المهين الذي مُني به الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيسة وزراء المملكة المتحدة تيريزا ماي والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في إقناع ترامب بالبقاء في خطة العمل الشاملة المشتركة متوقعا. ذلك أن القرار الأمريكي يعكس قوتين متقاربتين: نزوع السياسة الخارجية المتأصل ــ والذي تجلى في سلوكيات كل الإدارات الأمريكية الحديثة ــ إلى السعي إلى فرض الهيمنة الأمريكية في الشرق الأوسط، والطابع الغريب للاضطراب العقلي الذي يعاني منه ترامب، الذي يشعر بابتهاج عميق عندما يسبب لقادة أوروبا الحرج؛ ويرى في ارتباكهم وحيرتهم انتصارا له.
لكن هؤلاء القادة ليسوا عاجزين. فلا يزال إنقاذ الاتفاق مع إيران في حكم الممكن، خاصة وأنه اتفاق متعدد الأطراف أيده مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة (القرار رقم 2231)، وليس اتفاقا بين الولايات المتحدة وإيران فقط. الواقع أن كل الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، بما في ذلك الولايات المتحدة، ملزمة بموجب المادة 25 من ميثاق الأمم المتحدة بتنفيذ خطة العمل الشاملة المشتركة. وانسحاب الولايات المتحدة بقرار من ترامب من خطة العمل الشاملة المشتركة هو في حد ذاته انتهاك للقانون الدولي.
يتلخص جوهر خطة العمل الشاملة المشتركة والقرار رقم 2231 في وقف إيران للأنشطة التي قد تؤدي تطوير الأسلحة النووية. ويرتبط امتثال إيران التام بهذا الشرط بتطبيع العلاقات الاقتصادية الدولية، بما في ذلك رفع العقوبات التي وافقت عليها الأمم المتحدة.
وحتى إذا كانت الولايات المتحدة الآن غائبة عن خطة العمل الشاملة المشتركة، فليس أمامها سوى وسيلتين لمنع تنفيذ الاتفاق بين إيران وبقية العالَم. تتلخص الأولى في إشعال حرب. ومن الواضح أن هذا الخيار وارد على أجندة الولايات المتحدة، وخاصة مع عودة عميد المحافظين الجدد جون بولتون إلى البيت الأبيض في منصب مستشار الأمن القومي. ويتعين على العالم أن يقاوم بثبات وإخلاص أي مغامرة عسكرية أمريكية مدمرة أخرى.
وتتمثل الطريقة الثانية التي قد تتمكن بها الولايات المتحدة من قتل خطة العمل الشاملة المشتركة في العقوبات الخارجية. ربما يكون بوسع الولايات المتحدة أن تتخذ القرار بالامتناع عن مزاولة التجارة مع إيران. أما أن تحاول حكومة الولايات المتحدة منع التجارة مع إيران من قِبَل أطراف غير أمريكية فهو أمر مختلف تماما. لكن هذه هي نية أميركا؛ ومن واجب أوروبا والصين العمل على إحباط هذه النية، لمصلحة السلام العالمي، وهو ما يصب أيضا في مصلحتهما الاقتصادية المباشرة.
من الناحية العملية، سوف تتمكن الولايات المتحدة من فرض عقوباتها الموجهة ضد إيران على الشركات العاملة في سوقها المحلية، وفي الأرجح على الشركات التابعة لشركات أمريكية عاملة في الخارج. ومع ذلك، ستحاول الولايات المتحدة الذهاب إلى ما هو أبعد من هذا، من خلال محاولة منع الشركات غير الأمريكية من التعامل مع إيران. وربما تنجح الولايات المتحدة في قمع المعاملات المقومة بالدولار، لأنها تتم عموما عبر النظام المصرفي الأمريكي. وسوف تكون القضية الحقيقية هنا مع الشركات غير الأمريكية التي تعمل خارج الولايات المتحدة وتتفاعل مع إيران عبر عملات غير الدولار مثل اليورو والرنمينبي.
وسوف تحاول الولايات المتحدة بكل تأكيد معاقبة مثل هذه الشركات، سواء باستهداف أفرعها المحلية، من خلال محاولة سحبها إلى المحاكم الأمريكية، أو من خلال حرمانها من الوصول إلى السوق الأمريكية. وهنا يتعين على الاتحاد الأوروبي أن يتخذ موقفا قويا ويتحرك إلى ما هو أبعد من التوسل إلى ترامب للحصول على «إعفاءات» لصفقات تجارية أوروبية بعينها، وهي العملية التي من شأنها أن تجعل الدول الأوروبية أكثر خضوعا لأهواء ترامب. بل ينبغي لأوروبا أن تدافع عن «لا» قاطعة لا لبس فيها للعقوبات الأمريكية خارج حدودها، وخاصة على الشركات العاملة باستخدام عملات غير الدولار الأمريكي.
ينبغي للاتحاد الأوروبي أن يصر على أن العقوبات خارج الحدود الإقليمية تُعَد انتهاكا للقانون الدولي (بما في ذلك القرار رقم 2231، وبالتالي ميثاق الأمم المتحدة) وقواعد منظمة التجارة العالمية. وينبغي لقادة الاتحاد الأوروبي أن يدركوا أن الرضوخ يعني تسليم الولايات المتحدة شيكا على بياض لتحديد قواعد الحرب والسلام خارج مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وقواعد التجارة العالمية خارج منظمة التجارة العالمية. ويجب أن يكون الاتحاد الأوروبي مستعدا لاستخدام عملية حل النزاعات في إطار منظمة التجارة العالمية ضد الولايات المتحدة، وأن يعرض قضيته على مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة. فمن المؤكد أن الصين لن تتردد، حيثما أظهرت أوروبا الخوف، في الانقضاض للاستفادة من الفرص التجارية في إيران. وسوف تكون الصين محقة في ذلك.إن التحدي الأكبر الذي يواجه أوروبا ليس قانونياً أو حتى جيوسياسيا، بل نفسياً. والواقع أن قادة أوروبا يتصرفون وكأن الولايات المتحدة لا تزال تبالي بالتحالف عبر الأطلسي أو المصالح والقيم المشتركة. من المؤسف أن هذه لم تعد الحال.
لا تزال المصالح المشتركة كثيرة بين الولايات المتحدة وأوروبا؛ لكن الأمر لا يخلو من مصالح متباعدة أيضا، وخاصة عندما تنتهك الولايات المتحدة القانون الدولي. وأوروبا في احتياج إلى سياسة خارجية خاصة بها، تماما كما تحتاج إلى سياسة تجارية وبيئية خاصة. وعلى هذا فإن المواجهة حول خطة العمل الشاملة المشتركة هي لحظة الحقيقة. ويعتمد السلام العالمي على دفاع أوروبا عن ميثاق الأمم المتحدة وقواعد التجارة الدولية.

أستاذ في جامعة كولومبيا، ومدير مركز كولومبيا للتنمية المستدامة وشبكة حلول التنمية

المستدامة التابعة للأمم المتحدة.