آدم تووز
شاهين فالي
يسترشد الفِكر الألماني في ما يتصل بتكامل منطقة اليورو بشعارين: فأولاً، يجب أن تكون المسؤوليات والرقابة متوازية (بحيث لا يحدث تبادل المخاطر في غياب صلاحيات مشتركة)؛ وثانيا، لابد من تسوية المخاطر المرتبطة بالإرث القديم قبل حدوث أي تجميع للمخاطر بين أعضاء منطقة اليورو. منذ العام 2010، شكلت هاتان العبارتان كل المناقشة الدائرة حول كيفية دعم اليورو، وكل منهما تفسر إلى حد كبير التقدم الهزيل الذي تحقق على مسار إنشاء اتحاد مصرفي أوروبي. وألمانيا مستعدة للانطلاق إلى مستقبل مشترك، كما يقول قادتها، ولكن شريطة أن تبدأ أوروبا على صفحة بيضاء.
للوهلة الأولى، يبدو هذا الاقتراح معقولا بدرجة كافية. ولكن لكي نفهم عواقبه الكاملة، علينا أن نحاول تطبيق نفس المنطق على ميدان آخر في مجال السياسات: الأمن والدفاع.
ماذا لو طبقت فرنسا نهج ألمانيا في التعامل مع قضية تكامل منطقة اليورو على مسألة تبادلية الالتزامات الدفاعية؟ ماذا لو أصرت فرنسا، كشرط مسبق مطلق، على المزيد من التعاون الأمني، وأن لا تكتفي ألمانيا بزيادة ميزانياتها الدفاعية على الفور فحسب، بل وتعوض أيضا عن المتأخرات المتراكمة في الإنفاق الدفاعي من العقود الأخيرة؟
لم تكن ألمانيا دائما راكبا بالمجان في عربة الإنفاق الدفاعي لدول أخرى. بل كانت ألمانيا الغربية لاعبا يعتمد عليه في نظام تقاسم الأعباء الذي وضعه حلف شمال الأطلسي في فترة الحرب الباردة، وفي ثمانينيات القرن العشرين، كانت القوات المسلحة الاتحادية الألمانية قوة مقتدرة. وفي السراء والضراء، احترمت تقاليد الجيوش الألمانية منذ الإمبراطورية الألمانية. وكانت الخدمة الوطنية هي القاعدة. وكان الإنفاق الدفاعي يعادل 3% من الناتج المحلي الإجمالي.
ثم جاء سقوط سور برلين في العام 1989. واحتضنت ألمانيا مكاسب السلام بقوة. وقد نصت المعاهدات التي أعادت توحيد شطري ألمانيا على خفض القوات المسلحة الألمانية والتبرؤ من أسلحة الدمار الشامل. بيد أن التجرد من النزعة العسكرية عكس أيضا تحولات اجتماعية. فقد تغير شيء ما في الثقافة السياسية للجمهورية الاتحادية.
اختار عدد متزايد من الشباب الخدمة المدنية بدلا من الخدمة العسكرية. وفي العام 2011، تم تعليق التجنيد الإجباري. من الناحية العملية، ربما كان من الواجب أن يأتي هذا القرار في وقت سابق. والواقع أن أفضل الجيوش أداء اليوم هي الجيوش المحترفة وليست المجندة. ولكن في ألمانيا، لم تنشأ من نموذج نهاية الحرب الباردة أي صورة إيجابية للدور الجديد الذي كلفت به القوات المسلحة الألمانية. فقد انهارت المعنويات والقدرات الوظيفية بانهيار الإنفاق.
في اجتماع تلو الآخر لمنظمة حلف شمال الأطلسي، كانت ألمانيا تلتزم بإنفاق 2 % من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع. ولكنها لم تف بالتزاماتها قَط. فقد انخفض الإنفاق إلى ما يقرب من 1 % من الناتج المحلي الإجمالي، مع ذهاب الغالبية للرواتب ومعاشات التقاعد. وتُظهِر أحدث بيانات حلف شمال الأطلسي أن الإنفاق الألماني على المعدات الدفاعية وعلى مشاريع البحث والتطوير لم يتجاوز 0.17 % من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2017، مقارنة بنحو 0.42 % في فرنسا ونحو 0.47 % في المملكة المتحدة.
وقد أفضى شح الاستثمار العسكري في ألمانيا إلى نشوء فجوة كبيرة بين قدرتها الدفاعية وقدرة بقية أوروبا. والواقع أن قسما ضئيلا فقط من الأسلحة والمركبات العسكرية في ألمانيا جاهز للتشغيل. وعلى حدود أوروبا الشرقية، نجد أن تسعا فقط من أصل 44 دبابة موعود بها لوحدة القوات الألمانية، التي يفترض أن تشكل مرتكزاً لقوة التدخل السريع التي يبلغ قوامها 5000 فرد في العام المقبل، صالحة للاستخدام. كما تفتقر الوحدة إلى معدات أخرى ضرورية للمهمة، مثل الخيام، والملابس الشتوية، ومعدات الرؤية الليلية، والدروع الواقية للبدن.
من منظور اليسار الألماني، الذي يعارض استخدام القوة الصارمة، لا يوجد سبب للتعبير عن الأسف إزاء نقص الموارد. لكن تفريغ القوات المسلحة الألمانية يعطل أيضا قدرة ألمانيا على ممارسة القوة الناعمة. ففي العام 2014، تقطعت السبل بفريق المساعدة الإنسانية الألماني، الذي كان متوجها لتقديم المساعدة لليبيريا المنكوبة بالإيبولا، في جزر الكناري. ومن المقرر أن تخرج من الخدمة لمدة 18 شهرا سفن الإمداد الضخمة التابعة للبحرية الألمانية ــ وهي الأكثر ملاءمة لعمليات إنقاذ اللاجئين في البحر الأبيض المتوسط ــ بسبب نقص قطع الغيار.
إذا لم تكن أسلحة الجيش الألماني عاملة، وإذا كانت بوارجه راسية في الميناء الجاف، وإذا كانت قدراته اللوجستية صِفرا؛ فما هي الالتزامات الإضافية التي قد يقبلها دافعو الضرائب الفرنسيون؟ ومع الموافقة، العام تلو الآخر، على تبادلية تكاليف الدفاع، فإي نوع من الحوافز قد تقدمه فرنسا لألمانيا لحملها على تنفيذ الإصلاح؟
إذا طبق الفرنسيون قاعدة بسيطة للإنفاق، فسوف يتبين لهم أنهم أنفقوا تراكميا على الدفاع منذ العام 1990 ما يقرب من 30 % من الناتج المحلي الإجمالي زيادة على ما أنفقته ألمانيا. وإذا كان أكثر ما يهم الألمان هو الردع النووي الفرنسي، فإن التكاليف خلال نفس الفترة تبلغ في مجموعها ما يقرب من 4.5 % إلى 5 % من الناتج المحلي الإجمالي الفرنسي.
وعلى هذا فإن قضية الإرث القديم ليست هينة. فضلا عن ذلك، ونظرا لعادات ما بعد العسكرية المتأصلة في ألمانيا، فمن الطبيعي أن نتوقع حدوث تراجع. وماذا يفعل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالميزانية الألمانية التي أعلنت في وقت سابق من هذا الشهر، والتي تُظهِر زيادة هامشية في الإنفاق الدفاعي ولكن ليس بالقدر الكافي لتلبية هدف حلف شمال الأطلسي، ناهيك عن إغلاق فجوة العجز من الماضي؟
قد لا تبدو الحكومة الائتلافية الكبرى الجديدة بقيادة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل كشريك أمني جدير بالثقة، ولكن هل يعني هذا أن فرنسا ينبغي لها أن تنتظر وتتحمل إلى أن تفي ألمانيا بالتزامات ديونها الدفاعية من الماضي قبل أن تنظر في الاستثمارات والتبادلية الدفاعية في أوروبا؟
الواقع أن أوروبا في احتياج ماس إلى وضع استراتيجية أمنية صالحة للقرن الحادي والعشرين، ليس فقط لأن أمريكا في عهد دونالد ترامب لا يمكن التعويل عليها، بل وأيضا لأن الطوارئ الإنسانية تتطلب تلك الاستراتيجية. ويتعين عليها أن تعمل على تطوير ثقافة مشتركة وبناء حكم ديمقراطي لاتخاذ القرار بشأن نشر قواتها الدفاعية. وسوف يشمل هذا تعديلات ثقافية وسياسية عميقة من جميع الجوانب. ولابد من مناقشة كل من عادة الركوب بالمجان لدى ألمانيا وميل فرنسا إلى غزوات ما بعد الاستعمار.
هذه القضايا هي جوهر تطوير السيادة الأوروبية، بدعم من مؤسسات ديمقراطية وعمليات اتخاذ القرار الكفيلة بتمكين الاستخدام المشترك للقوة. ولكن من غير الممكن أن تبدأ أوروبا من صفحة بيضاء خيالية. بل يتعين عليها أن تبدأ من المكان الذي جلبها التاريخ إليه. والمقايضة التي ينبغي لفرنسا أن تطالب بها في مجال التعاون في السياسة الأمنية هي أن تعترف ألمانيا بنفس الواقع في ما يتعلق بالسياسة الاقتصادية.
وهنا أيضا، لابد أن يُقبَل الماضي على حاله. فالمواقف الأولية غير متكافئة والهياكل التحفيزية منقوصة. ولكن على الرغم من هذا، يتعين على أوروبا أن تتفق على المضي قدما بشكل جماعي، وإلا فإنها تجازف بالتمزق والتفكك.
آدم تووز: أستاذ التاريخ في جامعة كولومبيا
شاهين فالي: كبير زملاء صندوق سوروس