الطلبة الدوليون.. مستقبل التعليم العالي

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ١٥/مايو/٢٠١٨ ٠٧:٥٧ ص
الطلبة الدوليون.. مستقبل التعليم العالي

سالم بن مسلم المعمري

السفر والتنقل للبحث عن المعرفة والعلم ظاهرة قديمة ساهمت بصورة بارزة في إثراء المعرفة الإنسانية وبناء الحضارة العلمية حيث تلتقي العقول من مختلف الأعراق والأجناس البشرية في ظل مدنية وحضارة إنسانية وفّرت البيئة العلمية والمؤسسات الأكاديمية التي تشجع البحث العلمي والتطوير المعرفي والانفتاح الحضاري ليبدع الإنسان ويوظف طاقاته العقلية في البناء والتنمية.

تعتبر حركة الطلاب للدراسة حول العالم واحدة من أهم مظاهر التدويل وتبادل المعرفة بين الحضارات والدول وصارت جامعات العالم تتنافس في استقطاب الطلبة الدوليين للحصول على مكاسب مادية وعلمية وثقافية وقد اهتمت بهذا الجانب مجموعة كبيرة من البحوث العلمية والتي تناولت هذا الموضوع من مختلف الجوانب من حيث الدول المرسلة والدول المستقبلة ومدى تأثير هؤلاء الطلبة وتأثرهم بالمجتمعات المضيفة والأجواء الأكاديمية في مؤسسات التعليم العالي ومن أبرز الفوائد للطلبة الدوليين مساهمتهم البارزة في دعم الاقتصاد الوطني وزيادة الدخل للمؤسسات المضيفة ودورهم في توفير فرص العمل، فحسب مؤسسة التعليم الدولي في أمريكا Institute of International Education (IIE) بلغ عدد الطلبة الدوليين في الولايات المتحدة العام 2016 -2017 حوالي 1.078.822 كما بيّن تحليل NAFSA (الرابطة الوطنية لشؤون الطلبة الأجانب) أن هؤلاء الطلبة ساهموا بمبلغ 36.9 بليون دولار في الاقتصاد الأمريكي ودعموا أكثر من 450.000 فرصة عمل للاقتصاد الأمريكي في هذه الفترة.
وفي هذا الصدد بيّنت إحصاءات مكتب التعليم والتدريب للحكومة الأسترالية أن عدد الطلبة الأجانب في أستراليا بلغ حتى شهر مايو العام 2017 حوالي 502.544 وبلغت مساهمتهم في الاقتصاد الأسترالي العام 2015-2016 حوالي 22.4 بليون كما ساهموا بتوفير أكثر من 130.700 وظيفة.
وبالنسبة للمملكة المتحدة تشير الإحصاءات إلى أن عدد الطلبة الدوليين بلغ 438.010 للعام الأكاديمي 2015-2016 ساهموا بمبلغ 25.8 بليون £ في الاقتصاد البريطاني وتوفير أكثر من 206.600 وظيفة للقطاع العمالي في مختلف المجالات.
وحسب هذه الإحصائيات يأتي غالبية هؤلاء الطلبة من الصين والهند وماليزيا وتعتبر دول الخليج مصدرا مهما للطلبة الدوليين إلى مختلف دول العالم وخاصة من المملكة العربية السعودية.. حيث تمثل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أكبر المصدّرين للطلبة الدوليين الذين يتركز اهتمامهم بدراسة تخصصات تخدم التنمية في بلدانهم وخاصة التخصصات العلمية والتي يرمز لها بـ(STEM) وهي تخصصات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات.
ولمجموعة من الظروف السياسية والاقتصادية والثقافية أشارت مجموعة من الدراسات إلى تحوّل وجهة كثير من الطلبة الدوليين من الغرب إلى الشرق حيث ظهرت مجموعة من الدول في المنطقة بدأت تنافس بقوة في سوق التعليم العالي وتسعى لجذب أعداد أكبر من الطلبة الدوليين وعلى رأسها دول من شرق آسيا وجنوب شرق آسيا كالهند والصين واليابان وماليزيا وسنغافورة، ويعدّ انخفاض التكاليف المعيشية والدراسية أهم الأسباب إلى هذا التحوّل بجانب رغبة كثير من الطلبة في التعرّف على ثقافات جديدة وتعلم اللغات والدراسة في مناطق قريبة من بلدانهم مع عوامل ثقافية ودينية واجتماعية مع حرص هذه الدول واجتهادها في تطوير أنظمتها التعليمية وانفتاحها على ثقافات العالم وتوفير الدراسة بلغات عدة مع تيسير قوانين الدخول والحصول على تأشيرات الإقامة والعمل للطلبة الدوليين مما ينبئ حسب مجموعة من الدراسات بتحويل وجهة كثير من الدارسين من الغرب إلى الشرق والتأثير على قرار الطالب في اختيار مكان الدراسة.
وقد بدأت دول الخليج العربية دخول هذا السوق ولكن على استحياء شديد لا يتناسب والتطور المدني الحاصل في هذه الدول والإمكانيات المادية المتاحة مع الدعم الكبير الذي تقدمه الحكومات للجامعات وارتفاع معدل الإنفاق على التعليم، ففي تقرير لليونسكو أظهر مدى الإقبال من الطلبة الدوليين للدراسة في دول مجلس التعاون الخليجي حيث تتقدم المملكة العربية السعودية تليها الإمارات العربية المتحدة ثم قطر، وتأتي سلطنة عُمان بعد هذه الدول في عدد الطلبة الأجانب للعام الدراسي 2014- 2015 حيث بلغ عدد الطلبة الدوليين في عُمان 3000 طالب فقط، ويأتي هذا التراجع بسبب حداثة هذه الدول في إنشاء المؤسسات العلمية مع قلة المتخصصين من الأكاديميين وعدم استقرار أنظمة تقييم المؤسسات وإدارة الجودة ولكن في الجانب الآخر يعتبر نمو هذا القطاع سريعا وواعدا إذا وجدت الإرادة القوية والتخطيط المدروس للمنافسة والمشاركة بتدويل الأنظمة التعليمية حيث وصل عدد مؤسسات التعليم العالي في هذه الدول إلى 260 مؤسسة حازت على مراتب متقدمة بين الجامعات العربية في التصنيفات الدولية مثل تصنيف (QS) و(Times Higher Education) وكانت جامعة السلطان قابوس الجامعة العُمانية الوحيدة التي حازت على مناصب في هذه التصنيفات لعام 2017-2018 من بين الجامعات العربية حيث جاء ترتيبها 450-460 في تصنيف QS وفي المرتبة 801-1000 في تصنيف (Times Higher Education)، ومن خلال بحثي الذي قدمته لنيل درجة الماجستير في إدارة الإعلام بأستراليا حول بناء إستراتيجية تسويقية لمؤسسات التعليم العالي العُمانية لزيادة عدد الطلبة الدوليين فيها يظهر جليا أن البيئة العلمية والإمكانات المادية والظروف الأمنية والاجتماعية والسياسية مع التطور العمراني والموقع الجغرافي الذي يميز السلطنة يعطيها ميزة وقوة للتنافس وجذب أعداد أكبر من الطلبة الدوليين حيث تصنّف السلطنة ضمن أكثر الدول أمنا على المستوى العالمي والعربي وتربطها علاقات تاريخية وسياسية مستقرة وجيدة مع كثير من دول العالم مع النمو الاقتصادي المطرد وانتشار العمران وتوفر الخدمات الأساسية في شتى ربوع السلطنة مع تميزها الجغرافي والطبيعي.
إن دخول المؤسسات العُمانية السوق العالمية وانفتاحها على الطلبة الدوليين سيعود بالفائدة الكبيرة على المؤسسات العلمية بصورة خاصة وعلى الاقتصاد العُماني بصورة عامة وسيؤثر هذا التوجه عموما على الطلبة المحليين والمستوى الأكاديمي للجامعات والكليات العُمانية حيث أثبتت الدراسات أن الفصول المختلطة بالطلبة الدوليين من ثقافات وخلفيات منوعة يكون الطلبة فيها أكثر ثقافة وانفتاحا وتحصيلا علميا كما سيؤثر ذلك على البحث العلمي حيث تتضافر العقول من مختلف دول العالم بالعمل البحثي في محيط البلد مما سينعش هذا الجانب ويرفع قدره ومن هنا نفهم حرص الدول المتقدمة على جذب الطلبة الدوليين وتقديم كل التسهيلات الممكنة لهم للعمل والاستقرار في البلد المضيف حيث يصف آدم إديلي نائب مساعد وزير الخارجية الأمريكية الطلبة الدوليين في الأسبوع الدولي للتعليم المنعقد في أمريكا 2014 بقوله «إننا نسعى إلى أن يأتي الطلاب من جميع الخلفيات والبلدان للدراسة هنا»، واصفا ذلك بأنه «استثمار جيد في أجيال المستقبل» وفي تصريح للرئيسة التنفيذية للجامعات الأسترالية بليندا روبنسون قالت «إن التعليم الدولي ليس فقط مكونا أساسيا لاقتصاد أستراليا، بل إنه يساهم بشكل كبير في علاقات أستراليا مع العالم».
ومن هنا تقدمت في بحثي السابق برؤية إستراتيجية تعتمد على الدعاية الإعلامية والتسويق لمؤسساتنا العُمانية لأجل زيادة معدل الطلبة الدوليين وذلك بالتركيز على نقاط القوة التي تتميز بها السلطنة ومؤسساتنا التعليمية مع الحرص والتأكيد على أن هذه الرؤية لا يمكن أن تنجح بمعزل عن دعم حكومي من مختلف المؤسسات المعنية بهذا الجانب وبخاصة مجلس التعليم ووزارة التعليم العالي والهيئة العُمانية للاعتماد الأكاديمي ومجلس البحث العلمي وإدارة الهجرة والجوازات بشرطة عُمان السلطانية ووزارة التربية والتعليم مع مؤسسات التعليم العالي سواء الحكومية أو الخاصة وذلك بتهيئتها لاستقبال الطلبة الدوليين وفتح مكاتب خاصة لخدمتهم وتفعيل مواقعهم الإلكترونية بإيضاح الخدمات وإجراءات الالتحاق بالدراسة مع المشاركة في المعارض الدولية والقيام بالحملات الإعلامية وخاصة في مواقع التواصل الإلكتروني والارتباط بمكاتب خدمات التعليم العالي الدولية للتعريف بالمؤسسات ومميزات الدراسة في السلطنة، وقد اشتملت الخطة على تحديد الدول المستهدفة وذلك من خلال الواقع الحالي للطلبة الدوليين الدارسين في السلطنة حيث يأتي أكثرهم من الهند وباكستان وبعض الدول المجاورة مع وجود فرصة كبيرة لتسويق التعليم العالي العُماني في شرق إفريقيا وإيران والصين مع وجود مجموعة كبيرة من الطلبة المحبين لدراسة اللغة العربية والعلوم الشرعية من أمريكا ودول آسيوية وأوروبية، وهنا أحب الإشارة إلى أن السلطنة تتميز بتقديم الدراسة في مؤسساتها باللغة الإنجليزية وهذا من العناصر المطلوبة دوليا ولكن ينبغي مع ذلك العناية باللغة العربية وفتح مجال الدراسة لغير الناطقين بالعربية في جميع مؤسساتنا العلمية بحيث يمكن للطالب الدولي أن يرجع إلى بلده وقد كسب اللغة العربية كلغة ثانية وهذا مما يشجع كثيرا من الطلبة الدوليين الذين يرغبون في التعرّف على الثقافة العربية والإسلامية وقد عُرِف عن السلطنة تسامحها الديني وتمثيلها للإسلام الوسطي المعتدل.
في عصر العولمة والانفتاح البشري لا بد أن تبنى الحضارات والعقول على التواصل والاستفادة من تجارب مختلف ثقافات العالم وفي ظل الظروف الاقتصادية العامة يعتبر انفتاح مؤسسات التعليم العالي على السوق الدولية والمنافسة بقوة على استقطاب الطلبة الدوليين الذين يصفهم كثير من الخبراء في المنظمات الدولية للتعليم العالي بـ(السوق الكبير للتعليم العالي) حبل النجاة للبقاء والاستمرارية فلا يمكن البقاء بالاعتماد على الدعم الحكومي أو الطلبة المحليين ويمكننا القول إن كسب طالب دولي يمكن أن يفتح الباب لمجموعة من الطلبة المحليين كما توضح الإحصاءات الاقتصادية في الدول المتقدمة حيث تبيّن نسبة مساهمة الطلبة الدوليين في توفير الوظائف وإنعاش الحركة الاقتصادية في المجتمعات مما يساعد على خفض الرسوم والتكاليف على الطلبة المحليين. وفي مقال للكاتب حسني عبد الحافظ أورد تقريرا أمريكيا بعنوان «استعادة التنافسية الأمريكية للباحثين والطلاب الدوليين» أشار إلى أن على الحكومة الاتحادية إجراء المزيد من التطوير في إستراتيجيتها، لتوظيف الطلاب الدوليين، إضافة إلى إحداث تغيرات جذرية في أنظمة الهجرة وقوانينها؛ لما لذلك من أثر ملموس في جذب المزيد من الباحثين والطلاب الدوليين. فكل دولة تسعى للمنافسة بقوة في هذا السوق عليها إجراء خطوات ملموسة على أرض الواقع بما يتناسب مع ثقافتها وظروفها الاجتماعية والاقتصادية وللسلطنة تجربة متميزة في الانفتاح العالمي مع الحفاظ على القيم والتقاليد الوطنية وهذا هو المرجو في التعامل مع هذا القطاع فنحن نملك إرثا علميا وثقافيا زاخرا بالشخصيات العلمية الرائدة والتي أسهمت في الحضارة الإنسانية في مختلف المجالات مما يمكننا من إبراز شخصيتنا العُمانية العلمية كمركز حضاري رائد للتعليم العالي والتعليم الدولي.