العمل من المنزل يغير مفهوم الوظائف التقليدية

مؤشر الأربعاء ٠٩/مارس/٢٠١٦ ٢٣:٣١ م

مسقط -
تتزايد في الآونة الأخيرة الشركات التي تسعى إلى الاستغناء عن دوام العمل واستبداله بالعمل عن بعد، أي أن يعمل الموظفون من منازلهم، بعقود عمل موقتة أو ثابتة، مما يوفر على الشركات الكثير من المصاريف ويساهم في زيادة الإنتاجية، فضلاً عن منح الشركات إمكانية الاستفادة من طاقات وخبرات بعيدة جغرافيا من دون الحاجة إلى انتقالها إلى مكان العمل.

أعلنت آلاف الشركات حول العالم عن نيتها اعتماد نظام العمل عن بعد في العام 2016، من بينها شركات رائدة في العالم تشجعت على السير بتلك الخطوة، وتشمل اللائحة كبرى شركات الحوسبة على غرار «آبل» و»دل»، و»آي بي أم» و»أوراكل»، فضلاً عن شركات تجارية عملاقة أهمها «أمازون» التي تمتلك المتجر الإلكتروني الأكبر في العالم وصولاً إلى وزارة الداخلية الأمريكية وجامعة ماريلاند.
وفي المقابل ثمة شركات تخلّت عن هذا المبدأ الذي كانت قد اتبعته، فشركة «ياهو» أعلنت بعد تجربتها أن العمل عن بعد يمنع الأفكار الجماعية التي تعد في صلب عمل الشركة، «فأفضل الأفكار قد تأتي من جلسات الغذاء ومن التفاعل بين الموظفين» كما جاء في رسالة وجهتها إدارة الشركة للموظفين، وتعاني شركة ياهو من صعوبات ماديّة كبيرة، مما فرض عليها أن تعيد هيكلية العمل لتصمد أمام تحديات المنافسة التي تهدد وجودها.

توفير في الإنفاق

ويعتبر مناصرو العمل عن البعد أن القيمة الأساسية لهذا الخيار تأتي من توفير الكلفات المرتفعة على الشركات، وأهمها مصاريف تأجير المكاتب وأجهزة الكمبيوتر وفواتير الكهرباء والمياه، فضلاً عن مصاريف النقل والمصاريف التشغيلية اليومية وكلفات استهلاك المعدات، فضلاً عن التعويضات الباهظة التي تدفعها الشركات عند إنهاء أي عقد عمل، لا سيما أن الكثير من الدول تعتبر دوام العمل لاغياً لمبدأ التعاقد الوظيفي، وبمجرد أن يحضر الموظف إلى الدوام يصبح موظّفاً ثابتاً بموجب القانون.

بالإضافة إلى مشكلات أخرى تواجهها الشركات التي توظف أشخاصاً من جنسيات مختلفة، بسبب الفارق في مستوى الرواتب بين الدول التي يأتي منها الموظّف والدولة التي توجد فيها الشركة، فإذا كان يرضى براتب محدد في وطنه حيث التكلفة المعيشية متدنية نسبياً فهو لن يستطيع القبول بذات الراتب في حال انتقاله للعيش إلى بلد الشركة. هذا بالإضافة إلى المصاريف الباهظة التي تتكبدها الشركات على تذاكر السفر وتجديد الإقامات ورخص العمل للموظفين. لذلك فإن تعاقدهم مع موظفين يعملون عن بعد في دولهم يمكن أن يوفّر أموالاً طائلة.

وتشير دراسة لشركة Inc أن كل موظف في الولايات المتحدة يوفر على الشركة بين 2000 و7000 دولار أمريكي سنوياً إذا عمل من المنزل فيما تؤكد دراسة أجرتها شركة global workplace أن كل موظف يوفر على الشركة نحو 11000 دولار أمريكي إذا عمل من منزله مع احتساب كامل الكلفات الثابتة والمتغيرة.
علماً أن الشركة عندما تدفع راتباً للموظف فهي لا تدفع قيمة عمله فحسب بل تدفع أيضاً قيمة تواجده داخل المكتب، وهذا ما ظهر جلياً مع الشركات التي اعتمدت برامج لتحديد نسبة العمل الفعلي من دوام كل موظف، فظهر أن الشركة تدفع بين 20 و30 في المئة من قيمة الراتب لوقت لم يستغل في العمل، وفي الوقت نفسه يساهم هذا الوقت الضائع في إرهاق الموظفين وتقليص إنتاجيتهم.

زيادة في الإنتاجية

أما عن الإنتاجية فتؤكد الدراستان أن العمل عن بعد أثبت قدراً أعلى من الإنتاجية، إذ تظهر دراسة Inc أن الموظفين الذين يعملون عن بعد يغطون 40 ساعة من العمل الفعلي أسبوعياً، وبنسبة تزيد عن 20 في المئة مقارنة مع الموظفين في المكاتب، فيما تشيرglobal workplace إلى أن التوتر في العمل والمشكلات التي تطرأ بين الموظفين تساهم في شكل كبير في تخفيف الإنتاجية.

وتوضّح إحصائية نشرتها شركة جالوب أن الموظفين الذين يمضون أكثر من نصف ساعة من وقتهم ليصلوا إلى مركز عملهم لديهم مشكلات في التوتر الناجم عن الطريق وازدحام السير، مما يؤثر كثيراً في إنتاجيتهم، وأنهم يحتاجون لنحو نصف ساعة إضافية ليبدؤوا العمل الفعلي، ويحتاجون لنصف ساعة إضافية ليعملوا بكل طاقتهم. وكذلك، فإن العمل من المنزل تحديداً يساهم في تحسين صحة الموظفين من خلال قدرتهم على النوم بنسبة أكثر وأن يصبحوا أكثر تركيزاً خلال عملهم. وتؤكد الدراسة نفسها أن الموظفين الذي يعملون عن بعد يتمتعون بصحة أفضل ونشاط أكبر ويطلبون إجازات مرضية أقل بكثير من العاملين في المكاتب مما يوفر ظروف عمل أفضل للشركات.

وبحسب دراسة جالوب فإن 58 في المئة من المستطلعين يعتبرون أن الموظفين الذين يعملون عن بعد لديهم ذات القدرة الإنتاجية بالمقارنة مع الذين يعملون في المكاتب، فيما قال 16 في المئة أنهم أكثر إنتاجية. وهذا ما حقق نمواً في عدد الأشخاص الذين يعملون عن بعد، إذ أعلن 37 في المئة من الموظفين الذين شملتهم الدراسة بأنهم عملوا عن بعد لوظيفة واحدة على الأقل خلال حياتهم المهنية. وكان اللافت أن 40 في المئة من الذين يشغلون وظائف إدارية قالوا إنهم عملوا أو يعملون حالياً من منازلهم. أي أن ذلك الأسلوب من العمل بات يشمل الإدارات في الشركات ولا ينحصر فقط بالموظفين ذوي الوظائف غير الإدارية.

فوائد مختلفة

وبحسب دراسة نشرتها جامعة ستانفورد إن العمل عن بعد يقلص من التغيير المتواصل للموظفين إذ أن العاملين عن بعد يفضلون البقاء في الشركات التي يعملون فيها ولا يميلون كثيراً للتغيير ذلك أن الجو العام للعمل والمشكلات مع الزملاء والإدارة، والدوام الطويل تعد من أبرز الأسباب التي تدفع الموظفين على تغيير عملهم. ويعتبر الانتقال المتواصل للموظفين نزفاً للشركات التي تدفع مبالغ كبيرة لتوظيف المرشحين المناسبين، ومن ثم لتدريبهم وتنمية قدراتهم، فضلاً عن أن الموظف يحمل معه أسرار الشركة ومفاتيح قوتها وضعفها.

يساهم العمل عن بعد في تحريك العجلة الاقتصادية وتوظيف الباحثين عن عمل الذي لا يستطيعون الالتزام بدوام محدد لأسباب مختلفة، وتوفر هذه الطريقة فرص عمل لربات المنازل اللواتي لا يمكنهن الابتعاد عن أطفالهن لممارسة عملهم، فضلاً عن الأشخاص ذوي الإعاقة الذين يستصعبون الانتقال اليومي إلى مركز العمل. وكذلك فإن من شأنه تأمين دخل إضافي للأسر التي تعيش في الأرياف أو المناطق البعيدة عن أسواق العمل، وبالتالي من الممكن أن يساهم توظيفهم عن بعد في تنشيط الاقتصاد وتنمية المناطق البعيدة، فضلاً عن أن هذه الشريحة من الممكن أن تقبل برواتب أقل إذا تمت الموافقة على عملها من مكان سكنها.

مخاوف كثيرة

أما الشركات التي تعارض العمل عن بعد إنها تعتمد على مجموعة من المعطيات التي تتعلق بطبيعة عملها في الغالب، فالشركات التي يقوم عملها على الأفكار الجماعية والتفاعل بين الموظفين لا تشجع فكرة العمل عن بعد، لأن تعتبر أن التفاعل داخل المكتب أساسي لتطوير أفكار العمل، فضلاً عن أن ذلك يمنح الموظف التزاماً أكبر واستقراراً وظيفياً، فيما تصر شركات على أن العمل عن بعد يسمح بتسريب معلومات من داخل الشركة إلى الخارج لذلك من الصعب تطبيقه في وكالات المحاماة وشركات الإعلانات وغيرها من الشركات التي تعتمد بشكل كبير على السرية.

يرى مناصرو هذا الرأي أن العمل عن بعد يقوض مبدأ الالتزام الوظيفي، والأخلاق المهنية، لأن الروابط بين الموظفين والعمل لا تبنى فقط من خلال العقد الموقّع بل من خلال العلاقة التفاعلية المباشرة التي تنشأ بين الموظفين والإدارة. ولذلك فإن مبدأ «الوفاء» للشركة التي تعمل الشركات على ترسيخه من ضمن ثقافة العمل، يصبح غير مجدٍ في العمل عن بعد. وتقول الرئيسة التنفيذية لشركة «ياهو» ماريسا ماير التي أوقفت العمل عن بعد إن ذلك النوع من العمل «يضحي بسرعة العمل ونوعيته».
لكن رغم تلك المعارضة ما زال العمل عن بعد يشكّل فكرة مغرية للكثيرين من أصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة أو الشركات الناشئة التي تحتاج إلى توفير الكثير من الأموال للانطلاق بأعمالها. ومع تطور قطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وسير الدول نحو دعم تلك المؤسسات لتشكل اقتصاداً بديلاً يصمد في وجه الأزمات، فإن العمل عن بعد سيصبح نمطاً مهنياً عاجلاً أم آجلاً. بل حتى أن البعض يذهب أكثر من ذلك إذ يظن المكاتب التقليدية التي نعرفها الآن ستبدأ بالتلاشي، مع تطور وسائل الاتصال وإمكانية عقد اجتماعات كبيرة عبر الإنترنت، ولأن ترشيد الإنفاق بات من المسلمات في الاقتصاد العالمي الجديد.