للجميع أوطانهم

مقالات رأي و تحليلات الأحد ٢٩/أبريل/٢٠١٨ ٠٢:٢٥ ص
للجميع أوطانهم

أحمد المرشد

يقولون إن الإحساس نعمة، وهذا قول حق، فهو نعمة من المولى عز وجل، فالإحساس بمعانيه المختلفة من أسباب سعادة الإنسان إذا ارتبط بفرح ورزق مادي أو عيني، بمولود طال انتظاره، بترقية، بلقاء صديق قديم، وربما حبيب.. وربما يتسبب الإحساس في شقاء الإنسان أيضا إذا ارتبط بالخوف، بالجوع، بفقد عزيز غال، فقد وطن قسرا، اليتم..ناهيك عن الإحساس بالحب والكره، وهما مشاعر متناقضة ولكن قد يشعر بهما المرء في نفس الوقت، وهذا أمر خطير جداً على بؤرة شعوره.

نعلم أن الأحاسيس أنواع متعددة، ولكن ما يهمنا في مقامنا هذا هو المشاعر الإنسانية الأكثر إحساسا، ومنها على سبيل المثال الإحساس بالضياع. ونبدأ بإحساس الخوف من فقدان الوطن، فهو أصعب شعور يمر به إنسان، ونحمد الله أننا لم ولن نمر به لما أنعم علينا مالك الملك بنعمة الوطن الآمن، فنحن نعيش في وطن يوفر لمواطنيه الراحة والطمأنينة والسكينة والاستقرار والأمن والرزق الوفير وكافة مقومات الحياة الحضارية التي قد لا تتوفر في معظم بلدان العالم. فمن يشاهد نشرات الأخبار اليومية ويرى مشاهد اللاجئين وعذاباتهم اليومية وهم يتنقلون من موقع لموقع ومن بلد لبلد مطاردين، منبوذين، يشعر مباشرة بنعمة هذا الوطن الآمن، وطن لم يتعرض لذبذبات مالية واقتصادية أو هزات سياسية تطيح باستقراره، أو يتعرض لحروب أهلية ومنغصات اقتصادية تبدل حال مواطنيه بين لحظة وأخرى.

فأغلى ما يملكه المرء هو دينه ووطنه، فكل إنسان يعتز بوطنه، بأرضه التي ولد عليها وينتمي إليها ويستمد كيانه من روح هذه الأرض بل ربما تتلون بشرته بلون هذه الأرض.. فالوطن هو مهد الصبا ومرتع الطفولة وملجأ الرجال، والوطن أو الأرض هي منبع ذكريات كل إنسان، فهو موطن الآباء والأجداد ومهد التاريخ ومنبت الحضارة، ومأوى الأبناء والأحفاد. ومن أجل الأرض والوطن، يضحي الإنسان بكل غال ونفيس دفاعا عن كرامته المستمدة من كرامة وطنه. وها هو الإنسان يعيش في مناطق شديدة البرودة مثل القطب المتجمد الذي تصل فيه درجة الحرارة الى ستين تحت الصفر، ولكنه يعيش في وطنه ولا يغادره حتي إذا سنحت له الفرصة للهجرة منه الى بلاد أكثر دفئا بدلا من البرد القارس. ونجد هذا الإنسان وقد أقلم نفسه على العيش في هذا الجو قارس البرودة وإن كانت تطورات الحياة الحديثة خففت كثيرا من وطأة الحياة في مثل هذه المناطق.
وهنا في منطقة الخليج، لم يتخل أجدادنا عن أوطاننا شديدة الحرارة، بل أهلوا أنفسهم للعيش فيها وتأقلموا على مناخها وابتكروا وسائل معيشية بسيطة للغاية تخفف نوعا ما من شدة الحرارة بأبسط الوسائل، الى أن مر الجيل الذي سبقنا بتطورات سهلت أيضا سبل المعيشة. ولكن أجدادنا لم يتركوا أوطانهم ولا نحن، فحياتنا تسير فقط بإحساس حب الوطن، ونحمد الله أننا لم نشعر بإحساس الخوف من فقدانه، وعندما خاطب رسولنا الكريم- صلى الله عليه وسلم- مكة المكرمة مودعا لها وهي وطنه الذي أُخرج منه، روي عن عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمكة: «ما أطيبكِ من بلد، وأحبَّكِ إليَّ، ولولا أن قومي أخرجوني منكِ ما سكنتُ غيركِ». رواه الترمذي.

ومن الإحساس بالخوف من فقد الوطن الى شعور آخر يقترب مما سبق وهو الخوف من فراق شخص عزيز، وقد يولد هذا الخوف حالة من الشعور بالحزن والأسى حتى قبل فقدان هذا الشخص الذي ربما يمر بحالة مرضية صعب الشفاء منها، فمثل هذه المخاوف تكون شديدة الصعوبة على الإنسان، حتى ولو كانت مثل هذه الأحاسيس طارئة لم يكن الشخص يخطط لها أو يتوقعها، بل فاجأته وحدثت على حين غرة، مثلما الحال عندما يفقد الإنسان عزيزا أو غاليا. والمشكلة هنا أن الصدمة المفاجئة تصيب الإنسان بالعجز عن التعبير بما يشعر به، لأنه يمر بحالة نفسية كمن هبت عليه ريح عاتية هزته من أعماقه. وقد يمر الإنسان في هذه الحالة أيضا ببعض المشكلات الصحية، أصعبها الشعور بإنهاك كامل وعدم القدرة على التركيز وصولا للهذيان أو أن يتمنى الموت هو الآخر حتى يلحق بمن فقده كأم أو أوب أو أحد الأبناء. واعتقد أن الكثيرين قد مروا بمشاعر الخوف من فقدان عزيز، وقد دفعني هذا الأمر الى دراسة كيفية علاج هذا الإحساس حتى نتجنب التمادي فيه ونتفادى الإصابة بأمراض نفسية لا شفاء منها، خصوصا أن علماء النفس يحذرون من التمادي في هذا الشعور الذي قد يستمر من عام تقريبا الى عامين..ومن أفضل الوسائل لسرعة تجاوز هذا الشعور، التنفيس عما يجيش في صدرك من مشاعر، أي تقاسم أحزانك مع الأقربين منك والأصدقاء، فهذه وسيلة ناجحة لامتصاص الصدمة وتقضي على المشاعر السلبية..وربما اللجوء الى الكتابة، أي تفريغ شحنة الشعور بالحزن الشديد على الورق، ومخاطبة روحك بمعاناتك، وهذا الأمر يخفف من الأسى بالتأكيد..أو حتى الكتابة الى الشخص الذي فقدته وتخاطب روحه عبر الورقة والقلم وكأنك تراه ويراك وتتحدث معه ويتحدث معك. وقد وجدت من خلال قراءاتي في هذا الموضوع أن هذا العلاج فعال بصورة كبيرة في التغلب على أوجاع الحزن من فقدان عزيز أو حتى الشعور بالخوف من فقدانه.
وإذا كنا تحدثنا طويلا عن الأحاسيس الإنسانية، فالحيوان أيضا أنعم عليه الخالق بنعمة الإحساس بالخوف من فقد الوطن والفرح والأمومة والحزن والجوع – وإن كان الجوع غريزة طبيعية في كل المخلوقات – ولكن للحيوانات مشاعرها حتى بالبقاء وسط الجماعة وعدم الانعزالية، فالجماعة تقوي بالسير في قطيع واحد مما يمنحها القدرة على مواجهة المخاطر.. وكم من الأفلام العلمية التي شاهدنا فيها الحيوانات وهي لا ترضى بغير وطنها بديلا، بل وتضحي بكل غال ونفيس من أجل البقاء به وعدم مغادرته، والطيور تبني عشها وتستنكف العيش بغيره، وأمامنا جماعات النمل التي تغادر جحورها وتصعد على الصخور وتمشي على الرمال بحثا عن رزقها ثم تعود إلى بيوتها التي تتعرف عليها بغريزتها. وكذلك الطيور التي تهاجر من مواقعها الأصلية الى أماكن أكثر دفئا لترجع بعد فترة في رحلة العودة الى الوطن، وقوافل السمك التي تقطع آلاف الأميال عبر البحار والمحيطات ثم تعود إلى وطنها الأم، وكم من حيوانات ماتت بمجرد إجبارها على نقلها من وطنها الى أماكن أخرى لم تستطع التكيف مع أجوائها وطبيعتها غير المألوفة لديها، ونخلص من كل هذا أن معظم وإن لم يكن جميع المخلوقات تفقد الأمان إذا تركت موطنها الأصلي، وهذه سنة الله في أرضه.
ومن أحاسيس الحيوانات بالخوف من فقدان الوطن الى الشعور بالحزن في حالة وفاة أحدهم، فقد بعث لي صديق بمقطع فيديو أبلغني أنه منتشر جدا على مواقع التواصل الاجتماعي، وفيه مجموعة من الحمير تنتحب بشدة لوفاة حمار في المزرعة التي يعيشون بها، وتكاد قلوبهم تنفطر من البكاء على وداع صديقهم الحيوان. فالمودة والألفة موجودة أيضا في عالم الحيوان، ولدى الكثير منا مقاطع الفيديو التي تدل على هذا، ناهيك عن هذا العالم الذي يتسم بالنظام، فعلى سبيل المثال شاهدت مؤخرا مقطعاً لقطيع من البط، بدأ بقفز الأم لرصيف الشارع، لتنتظر بقية أفراخها، ولم تغادر المكان إلا بعد نجاح صعود الجميع لتلك الدرجة الصعبة، وكلما هم فرخ بالصعود ثم فشل تعود وتشجعه هي وبقية الأفرخ التي نجحت في الصعود مبكراً..حقاً كان مقطعاً مؤثراً للغاية، حيث أوضح لنا مدى النظام الذي تعيشه الطيور. وكم من المقاطع في عالم السوشيال ميديا لعالم الحيوانات والطيور تعلمنا كيف يعيش هؤلاء في ود وألفة وحب، ويكفي مشاهدة الأم لأولادها سواء كانت حيواناً أو طيراً.

كاتب ومحلل سياسي بحريني