متابعة - سعيد الهنداسي
قرية الأبيض من قرى ولاية نخل بمحافظة جنوب الباطنة، وهي قرية تجمع بين عراقة الماضي حيث الحصون والمساكن التراثية الطراز والعادات والتقاليد العمانية الأصيلة، وبين إشراقة الحاضر حيث الشوارع المعبدة والخدمات الطبية والمدارس التعليمية والمنازل الحديثة الطراز، تتاخم في حدودها العديد من الولايات كولايتي بركاء والمصنعة من جهة الشمال ووادي المعاول من جهة الشرق والرستاق من جهة الغرب والعوابي من جهة الجنوب.
تختلف الروايات حول أصل اسمها. وإن كان يبدو اللون الأبيض الذي اتسمّت به عاكساً لطبيعة المكان حيث المياه الصافية ليست ما يميز المكان بل أخلاق أهلها في بياض قلوبهم ونقاء سريرتهم وسمو نفوسهم وهي صفات غلبت على العماني في صفاته العامة، ولذلك كان اللون الأبيض جزءاً من مفردات بلادنا عمان ويظهر ذلك أيضا في علم السلطنة.
طبيعة القرية
تشكّل الطبيعة التي حبى الله بها هذه القرية عنصراً جاذباً بتنوّعها التضاريسي والبيئي الذي منحها ميزة بيئية جميلة تجمع فيه بين روعة المكان والإنسان، ففي حين تجدها وادعة بين تلك الجبال الشامخة التي تحتضنها من ثلاث جهات الشرق والغرب والجنوب تحيط بها كأسوار تحصينية تبعث فيها بظلالها فتمنحها السلام والأمن والهدوء والسكينة وتعلّم أبناءها الشموخ والصبر والصمود، فإن القادم إلى القرية من جهة الشمال تطالعه تلك الكثبان الرملية بتربتها الناعمة الممتدة كلسان طولي تحييه وتبعث إليه نسماتها بروح الفرح والسرور والتحايا العطرة وترافقه طول الطريق حتى يصل تخوم القرية في حلّ وترحاب.
ملتقى العائلات
لقد كانت تلك الرمال الناعمة وما تزال ملتقى عائلياً وسياحياً في آن واحد، تجد العائلات بين تربتها مكاناً للتنفيس والخروج من رتابة الحياة واستنشاق جو طبيعي تعيد إليها نقاء الحياة وصفاءها، تبعث بالمحبة والألفة بين أفراد الأسرة فتلتقي في حب وسرور ومرح، فيصير مقصداً عائلياً لا لأهل القرية فقط بل حتى من القرى والولايات المجاورة، خصوصاً أيام الإجازات فتجد الأنوار البيضاء مكتسحة تلك الرمال أوقات المساء وكأن النجوم تهاوت مستلقية على تلك الرمال تشقّ ظلام الليل العاتم.
إضافة سياحية
لكنّ قرية الأبيض لا تقف عند هذا الحد! بل إنها تكون أيضاً مقصداً سياحياً للشباب يمارسون فيها هواية صعود الرمال بسياراتهم فما أن يجيء يوم الجمعة إلا وتجد أصحاب تلك الهواية متجمعين في (خبة القعدان) قادمين إليها من مدخل (طوي الجني) من داخل القرية وخارجها بين ممارس لهوايته أومشاهد لأولئك المتسابقين في رمال (خبة القعدان)، بل وتجدهم ينظّمون بينهم سباقات ويضعون لها قواعد وأنظمة لتبدو بشكل منظم وآمن في موعد محدد يعلن عنه عبر وسائل التواصل مسبقا وتدعمه بعض الشركات، كما هو موجود في كثير من البلدان والدول حيث تشكّل تلك إضافة سياحية جيدة ومحطة جيدة لممارسة الهوايات بعيدا عن الشوارع والمناطق السكنية، بل وتجد فوق ربوع تلك الرمال فندقا سياحيا (ديونوس) كنوع من الجذب السياحي لتلك المنطقة، فتبدو مع كل هذا تلك الرمال إضافة سياحية لافتة للقرية تجعلها محطّ رحال الكثير من العمانيين وملتقى عائليا جميلا معطية بذلك دعما قويّا للسياحة الداخلية.
وادي الأبيض
وفي حين يتّجه الكثيرون إلى تلك الرمال لممارسة هواياتهم ولقضاء وقت ممتع بعيداً عن صخب المدن وضجيجها والمراكز وازدحامها مستمتعين بأجواء الطبيعة الساحرة، فإنك تجد آخرين يتجهون إلى (وادي الأبيض) للاستمتاع بمياهه الرقراقة والمرور بين صخوره الراسخة فبينما تجد هناك تلك الرمال الناعمة تطالعك هنا الصخور الصلدة تنساب بين أفجاجها مياه صافية تتجمّع لتكوّن بِركا مائية، مشكّلة تجمعاً آخر للسياح خصوصاً وقت نزول الأمطار حيث تكون المياه على غزارتها تجري أنهارا متدفقة لتكون مرتعا للسياح يقضون فيه أوقاتهم بل ومبيتهم أثناء الإجازات في (جباة محيل) كما تسمّى محلياً وغيرها تكون مقصداً سياحياً تجري سيارات الدفع الرباعي (الفورويل) في أرتال متتالية أرتال قادمة وأخرى ذاهبة، ولعل ما يضيف لذلك الوادي قيمته تلك المياه الكبريتية البيضاء التي تكسو بعض المناطق منها.
تسلق الجبال
وتشكل تلك الجبال للهاوين لتسلّق الجبال مكاناً جيداً لممارسة هواياتهم فكثير من السياح يفضلون القدوم راجلين من سياراتهم وتراهم يتسلقون قمم تلك الجبال حاملين على ظهورهم حقائبهم مستمتعين بطلوعهم لتلك الجبال سالكين تلك الطرق الوعرة بين تلك الشجيرات الصغيرة والتي كانت العلاج للكثير من الأمراض فالخبيرون من القدماء يعرفون أسماء تلك الشجيرات ويميّزون بينها ويصنفونها كأدوية لكثير من الأدواء في ذلك الحين الذي لم تعرف الأدوية الكيماوية طريقها بين أهالي القرية. يتسلق السياح الجبال محاولين استعادة طريق عيش القدماء حين كانوا يقطعون المسافات بالساعات والأيام بل وحتى الشهور متسلقين تلك الجبال للوصول إلى الأماكن الأخرى التي كانت تقف خلفها (نزوى والرستاق والحمراء وغيرها) فبين الرياضة والسياحة تبدو تلك الجبال المحيطة بالوادي متنفساً سياحياً جاذباً لمحبي هذه الهوايات وكم من مجموعات نظمها الشباب أتوا من مختلف بقاع عمان لتسلق تلك الجبال تنفيذا لرغبة في استكشافا بلادنا عمان وما تزخر به من خيرات كثيرة.
جمالية الأفلاج
تنساب تلك المياه متدفّقة في جداول فوق الأرض وتحتها راوية الأشجار المارة بها، لتنتهي إلى فلجين (العبتري وفلج الخطم) فلج العبتري الغيلي حسب تقسيمات الأفلاج لا يتوقف عن الجريان شتاء وصيفا وإن قلّ أحياناً في حالة اشتداد (المحل) الشديدة لكنه يظل جارياً طول السنة. بينما يبدو فلج الخطم (الداووي) شديد التأثّر بقلة الأمطار فما أن يحل الصيف أو حتى تقل منسوبات الأمطار تجده قد انقطع عن الجريان وفارقت الجداول مياهه وتوقف الحياة فيه فلا تجد أثرا لمياه تتعطش الأشجار والناس للقياه، فما أن يحل إلا وترى الناس عليه أفواجاً خرجوا يستقبلونه والبهجة تملأ محيّاهم والسيّاح تزاحموا على طول مجراه متنعّمين ببرودة مياهه خصوصا وقت الصيف فمن المميز في مياهه أنها تكون خلاف طبيعة الطقس ففي الشتاء تجد مياهه ساخنة وفي الصيف تجدها باردة لذا متى ما كان موجودا في الصيف تجد المجاورين له والبعيدين قد حلوا ضيوفا عليه فيكرمهم ببرودة مياهه وجمال منظره.
بيوت قديمة
وأنت قادم للوادي تطالعك البيوت القديمة المتهدمة في بعضها في تلك القمم الجبلية حيث كان يعيش فيها سكان القرية قبل أن هجرها الكثير منهم إلى منطقة (الخطم) التي صارت محاكية للمدنية والتي أصبحت مترامية مشكلة شاهدا على التطور العمراني. فتبدو تلك البيوت في محلتيها (العالية والحدريّة) شاهدة على سكنى أهل القرية وطبيعة حياتهم القديمة حاملة معاني القناعة والمحبة والتآلف والتعاون والتكاتف، من آثار قومها السالفين والباقين الذين اضطرتهم الظروف للخروج عنها إلى مكان أرحب وأوسع مع ازدياد أفراد العائلة وما سعة الرزق التي نعموا بها كما نعم بها أبناء عمان حيث تحول الحال وتحسنه مع امتداد يد النهضة إليهم بما أنعم الله به عليهم من سعة في الرزق بمجيء النهضة المباركة.
فرق تطوعية
وتبرز تلك المحبة وذلك التكاتف من خلال الفرق الأهلية القائمة بسواعد شبابها الساعية كفريق الأبيض الخيري الحديث النشأة المعني بالجوانب الاجتماعية ومجموعة منابر الأبيض المهتمة بنشر الوعي المجتمعي وفريقي الأبيض الرياضي الثقافي ووادي الأبيض الرياضي الثقافي الحاضنين الأساسيين للشباب.وهكذا تبقى قرية الأبيض شامخة بجبالها ورمالها جميلة بمناظرها ومياهها وأشجارها متكاتفة متألقة بأفرادها محافظة على عاداتها وتقاليدها سالكة سبل الرّقي والتّطور المادي والمعنوي.