أوروبا في السياسة الإيطالية

مقالات رأي و تحليلات الخميس ١٢/أبريل/٢٠١٨ ٠٧:١٧ ص
أوروبا في السياسة الإيطالية

جيفري ساكس

يحتاج الاتحاد الأوروبي الآن إلى الوحدة أكثر من أي وقت مضى للتأكيد على قيمه ومصالحه في عصر حيث أصبحت القيادة الأمريكية العالمية على وشك الانهيار، والصين في صعود، وروسيا تتأرجح مرة أخرى بين التعاون والمواجهة مع الاتحاد الأوروبي. الواقع أن الاتحاد الأوروبي المقسم يصبح مجرد متفرج عاجز يراقب الاضطرابات الجيوسياسية. أما الاتحاد الأوروبي المتحد فهو قادر على الاضطلاع بدور عالمي بالغ الأهمية، لأنه يجمع على نحو فريد بين الرخاء، والديمقراطية، وحماية البيئة، والإبداع، والعدالة الاجتماعية. وسوف تتوقف استعادة الاتحاد الأوروبي لوحدة الغرض، أو انزلاقه إلى الفوضى، على ما يحدث في إيطاليا الآن.

ينبع دور إيطاليا المحوري من موقعها عند الحد الجغرافي الفاصل بين رخاء أوروبا الشمالية وأزمة أوروبا الجنوبية، والانقسام الفكري والعاطفي بين أوروبا المنفتحة وأوروبا المحاصرة مرة أخرى بالنزعة القومية، والتحيز، والخوف. كما تقف إيطاليا عند الحد الفاصل السياسي، في ظل حزب جديد متمرد، حركة النجوم الخمسة، الذي يتقاسم الساحة السياسية مع حزب الرابطة اليميني المناهض للمهاجرين والاتحاد الأوروبي والحزب الديمقراطي من يسار الوسط المؤيد للاتحاد الأوروبي ولكنه بات ضعيفا إلى حد كبير.

احتل حزب حركة النجوم الخمسة المتمرد المركز الأول في الانتخابات البرلمانية التي جرت في الرابع من مارس بعد حصوله على نسبة مذهلة من الأصوات بلغت 33%، مقارنة بنحو 19%للحزب الديمقراطي ونحو 17%لحزب الرابطة. وتشكل العواقب المترتبة على الانتصار القوي الذي حققه حزب حركة النجوم الخمسة موضوع مناقشة محتدمة في إيطاليا ومختلف أنحاء أوروبا.

وفي مختلف أنحاء الاتحاد الأوروبي، تخسر الأحزاب التقليدية المنتمية إلى يسار الوسط ويمين الوسط المؤيدة للاتحاد الأوروبي أصوات الناخبين. وكما هي الحال في إيطاليا، تكسب الأحزاب القومية المناهضة للاتحاد الأوروبي مثل حزب الرابطة المزيد من الأصوات، أما الحركات المتمردة المناهضة للمؤسسة ــ مثل بوديموس في إسبانيا، وسيريزا في اليونان ــ فإنها إما تفوز بالسلطة بشكل مباشر أو تحافظ على توازن القوى بين الأحزاب التقليدية الرئيسية المؤيدة للاتحاد الأوروبي والأحزاب القومية المناهضة للاتحاد الأوروبي.هناك ثلاثة أسباب وراء السياسة المتغيرة في أوروبا. السبب الأول، والذي ربما يحظى بالقدر الأقل من الاعتراف، هو جيل من السياسة الخارجية الأمريكية الكارثية في الشرق الأوسط وأفريقيا. فبعد نهاية الحرب الباردة في أوائل التسعينيات، سعت الولايات المتحدة وحلفاء محليون إلى تأسيس هيمنة سياسية وعسكرية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من خلال حروب بقيادة الولايات المتحدة لتغيير الأنظمة في أفغانستان، والعراق، وسوريا، وليبيا، وأماكن أخرى. وكانت النتيجة العنف المزمن وانعدام الاستقرار، مما أدى إلى تدفق أعداد كبيرة من اللاجئين إلى أوروبا وبالتالي تعكير صفو السياسة في دولة تلو الأخرى في الاتحاد الأوروبي.وكان السبب الثاني ضعف الاستثمار المزمن في أوروبا، وخاصة من قِبَل القطاع العام. ففي عهد وزير المالية الأسبق فولفجانج شويبله، منعت ألمانيا الراضية عن ذاتها والناجحة اقتصاديا النمو الذي يقوده الاستثمار على مستوى أوروبا، وحولت منطقة اليورو إلى سجن دائنين لليونان ومنطقة مثبطة للهمم حيث يهيمن الركود على قسم كبير من أوروبا الجنوبية والشرقية. ومع اقتصار السياسة الاقتصادية في الاتحاد الأوروبي على التقشف، ليس من الصعب أن نرى لماذا ضربت الشعبوية بجذورها عميقا.
والسبب الثالث بنيوي. فأوروبا الشمالية تبدع وتبتكر، في حين لا تبدع أوروبا الجنوبية والشرقية في عموم الأمر، أو على الأقل ليس بنفس المعدل. وتقع إيطاليا عند التقاء جانبي أوروبا: الشمال الديناميكي، والوعكة الاقتصادية في الجنوب (جنوب إيطاليا). وهذه قصة قديمة، ولكنها جارية حتى الآن. وهي تساعد في تفسير الخطوط الأمامية للسياسة في الاتحاد الأوروبي. فقد كان أكبر فوز حققته حركة النجوم الخمسة في جنوب إيطاليا الراكد.تتجه ميولي السياسية نحو الديمقراطية الاجتماعية. وأنا ألوم المحافظين من أمثال شويبله لأنهم دفعوا الناخبين إلى أحضان الأحزاب الشعبوية. ومع ذلك، ذهب العديد من زعماء التيار الديمقراطي الاجتماعي إلى مجاراة شويبله في هدوء. كما أحمل المستشارة أنجيلا ميركل وغيرها من الزعماء الأوروبيين المسؤولية عن عدم التحدث بالقدر الكافي من القوة ضد الحروب التي قادتها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وكان من الواجب على القادة الأوروبيين أن يبذلوا قدرا أكبر كثيرا من الجهد في الأمم المتحدة في معارضة سياسة الهيمنة الأمريكية في الشرق الأوسط، وما أفضت إليه من آثار كارثية، بما في ذلك النزوح الجماعي وتحركات اللاجئين.ينبغي للداعين إلى اتحاد أوروبي قوي ونابض بالحياة ــ وأنا منهم بكل تأكيد ــ أن يشجعوا الأحزاب المتمردة على توحيد قواها مع الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية التقليدية التي تمكن منها الضعف من أجل تعزيز التنمية المستدامة، والإبداع، والنمو الذي يقوده الاستثمار، وأن يمنعوا قيام تحالفات مناهضة للاتحاد الأوروبي. أو كما هي الحال في ألمانيا، ينبغي لهذه الأحزاب أن تستحث الائتلاف الكبير بين أحزاب يسار الوسط ويمين الوسط لكي تصبح أكثر ديناميكية وتوجها نحو الاستثمار على المستوى الأوروبي، سواء في سبيل الحس الاقتصادي السليم أو لمكافحة القوميين من اليمين المتطرف. أو كما هي الحال في فرنسا، ينبغي لها أن تشجع دمج التقليديين والمتمردين من أنصار الاتحاد الأوروبي في حزب الجمهورية إلى الأمام! بقيادة الرئيس إيمانويل ماكرون. وبفضل مثل هذه التحالفات المؤيدة للاتحاد الأوروبي يحصل الاتحاد على الوقت اللازم لإصلاح مؤسساته، وتشكيل سياسة خارجية مشتركة، وإطلاق النمو الأخضر الذي يقوده الاستثمار والإبداع في محل التقشف والرضا عن الذات.تتجنب الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية التقليدية في الغالب الأحزاب المتمردة الجديدة، وتعتبرها شعبوية، وغير مسؤولة، وانتهازية، وغير نزيهة. هذه هي وجهة النظر في إيطاليا من جانب الديمقراطيين، حيث يرفض كبار الساسة الائتلاف مع حركة النجوم الخمسة. وهو أمر مفهوم: فقد ألحقت الأحزاب الصاعدة فجأة الهزيمة بالديمقراطيين في صناديق الاقتراع، وغالبا على أساس وعود شعبوية كبرى. ومع ذلك، كان الديمقراطيون الاجتماعيون واهنين بل وحتى صامتين في مواجهة التقشف على طريقة شويبلة والحروب غير المسؤولة التي قادتها الولايات المتحدة. وسوف يكون لزاما على الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية التقليدية أن تستعيد ديناميتها وشهيتها لخوض المجازفة للفوز مرة أخرى في صناديق الاقتراع باعتبارها أحزابا تقدمية حقيقية.الواقع أن المخاطر في إيطاليا مرتفعة. فمع انقسام أوروبا سياسيا وجغرافيا، ربما تقلب السياسة في إيطاليا الميزان. فإيطاليا المؤيدة للاتحاد الأوروبي التي يحكمها ائتلاف بين حركة النجوم الخمسة والديمقراطيين من الممكن أن تنضم إلى فرنسا وألمانيا في إصلاح الاتحاد الأوروبي؛ واستعادة صوت واضح في السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي في مقابل الولايات المتحدة، وروسيا، والصين؛ وتنفيذ استراتيجية للنمو الأخضر القائم على الإبداع.
لإقامة مثل هذا الائتلاف، يتعين على حركة النجوم الخمسة أن تتبنى برنامجا اقتصاديا مسؤولا ومحددا بوضوح، ويتعين على الديمقراطيين أن يقبلوا كونهم الشريك الأصغر في قوة متمردة لم تختبر بعد. وربما يكون المفتاح المحتمل إلى بناء الثقة المتبادلة أن يتولى الديمقراطيون وزارة المالية المهمة، في حين تتولى حركة النجوم الخمسة تعيين رئيس الوزراء.
ليس من المستغرب أن يهرع ستيفن بانون، المستشار الأسبق المتهور تماما للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إلى إيطاليا لتشجيع حركة النجوم الخمسة وحزب الرابطة على تشكيل ائتلاف أسماه «الحلم المطلق»، لأنه كفيل بكسر الاتحاد الأوروبي. وهذا في حد ذاته لابد أن يذكر الإيطاليين بأهمية وجود ائتلاف مؤيد للاتحاد الأوروبي يرفض مثل هذه الكوابيس البائسة.

أستاذ في جامعة كولومبيا، ومدير مركز كولومبيا للتنمية المستدامة