الأمن وبناء الاقتصاد

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ١١/أبريل/٢٠١٨ ٠٥:٣٤ ص
الأمن وبناء الاقتصاد

هارولد جيمس

الآن بعد أن أصبح العالَم في مواجهة حرب تجارية، فضلاً عن احتمال متزايد بأن يجد الغرب نفسه في حرب حقيقية، فربما نحسن صُنعا بإعادة النظر في الدروس المستفادة من فترة ما بين الحربين.

الواقع أن العديد من الاضطرابات الاقتصادية والأمنية اليوم كثيرا ما تُعزى إلى الأزمة المالية العالمية التي اندلعت في العام 2008. فبالإضافة إلى الكشف عن العيوب التي شابت السياسات الاقتصادية التقليدية، عملت الأزمة وما أعقبها من تداعيات على التعجيل بعملية إعادة التوازن العالمي من منطقة الأطلسي إلى منطقة آسيا والمحيط الهادئ، في حين ساعدت في تغذية حالة السخط السياسي وصعود الحركات المناهضة للمؤسسة في الغرب.

على نحو مماثل، يُعتَقَد عادة أن أزمة الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن العشرين أحدثت تحولا زلزاليا في الفِكر الاقتصادي. ووفقا للسرد التقليدي، قام صناع السياسات في ذلك الوقت، بعد أن تعهدوا بعدم تكرار الأخطاء التي أدت إلى اندلاع الأزمة، بابتكار تدابير جديدة للتغلب على الوعكة التي عاشتها اقتصاداتهم والتي دامت طويلا.
وعادة، تُنسَب عملية إعادة الترتيب المفاهيمية والمؤسسية للاقتصاد، التي أعقبت ذلك، إلى شخصية بارزة: رجل الاقتصاد البريطاني جون ماينارد كينز، الذي نشر كتاب «النظرية العامة للعمالة، والفائدة، والمال» في العام 1936. كما أدار كينز في العام 1944 مؤتمر بريتون وودز، الذي قاد إلى إنشاء البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، والنظام النقدي العالمي بعد الحرب.
ووفقا للمتعاون مع كينز وكاتب سيرته روي هارود فإن كينز كان يتمتع بحضور شبه مقدس في محادثات بريتون وودز. لكن بعض معاصري كينز الآخرين، وأبرزهم الاقتصادية البريطانية جوان روبنسون، كانوا يشككون دوما في استحقاقه لكل هذا الفضل في التبشير بقدوم النظام الجديد.
الواقع أن السبب الحقيقي وراء سيطرة الفِكر الكينزي كان أن طريقته في حساب الاستهلاك الكلي والاستثمار والادخار أثبتت كونها عظيمة القيمة للتخطيط العسكري الأميركي والبريطاني خلال الحرب العالمية الثانية.
ففي ظل محاسبة وطنية متسقة، بات بوسع الحكومات استخدام الموارد على نحو أفضل، وتحويل الإنتاج من الأغراض المدنية إلى العسكرية، والحد من الضغوط التضخمية، وبالتالي الحفاظ على الاستهلاك ودرء الاضطرابات المدنية.
وقد تبين أن نفس الأدوات مفيدة بنفس القدر في إعادة توجيه الاقتصاد في فترة ما بعد الحرب نحو الاستهلاك الأسري الأعلى. لكن النقطة الأساسية هنا هي أن الثورة الاقتصادية، التي أعقبتها المعجزات الاقتصادية في حقبة ما بعد الحرب، كانت نتاجا لحسابات زمن الحرب، وليس تأملات في زمن السِلم. وكانت المخاوف الأمنية الضاغطة والحاجة إلى ضمان الاستقرار المحلي والدولي من الأسباب التي جعلت صناع السياسات أكثر استعدادا لتحدي المعتقد الاقتصادي التقليدي القديم.
يحمل هذا العصر دروسا مهمة للزمن الحاضر. ففي أيامنا هذه، يشكو العديد من أهل الاقتصاد من أن الأزمة المالية لم تدفع إلى إعادة التفكير بشكل جدي في الاقتصاد التقليدي. ولا يوجد مفكرون اقتصاديون بقامة جون ماينارد كينز في العصر الحديث. بل سنجد بدلا من ذلك أن القضايا الاقتصادية والمالية تميل إلى الخضوع للمناقشة في صوامع فكرية، من قِبَل متخصصين لا يبالون كثيرا بالمخاوف الأمنية أو التفاعل بين الأهداف الوطنية والدولية.
ولكن كما كانت الحال في فترة ما بين الحربين، لا يخلو الأمر اليوم من تهديدات أمنية من شأنها أن تجعل إعادة النظر في الافتراضات الاقتصادية أمراً ضرورياً، إن لم يكن حتميا. ورغم أن الأزمة المالية لم تؤد إلى محاسبة فكرية شاملة، فيكاد يكون من المؤكد أن ثلاثة تحديات أوسع نطاقا للنظام الدولي الليبرالي منذ العام 2016 سوف تقود إلى مثل هذه المحاسبة.
يتمثل التحدي الأول في التهديد الوجودي الناجم عن تغير المناخ، والذي سيفضي إلى عواقب جيوسياسية بعيدة المدى، وخاصة في المناطق التي تواجه بالفعل نقص المياه، وفي الدول المدارية والمدن الساحلية التي تشهد بالفعل تأثيرات ارتفاع مستويات سطح البحر. وفي الوقت نفسه، سوف تتمتع بعض الدول بمكاسب مؤقتة، نظرا لزيادة مواسم الزراعة طولا فضلا عن زيادة القدرة على الوصول إلى المعادن، والهيدروكربونات، وغير ذلك من الموارد في المناطق القطبية.
في نهاية المطاف، يخدم الحد من كمية الغازات المسببة للانحباس الحراري الكوكبي في الغلاف الجوي الصالح العام.
ولكن في غياب آلية دولية لتعويض أولئك الأكثر عُرضة للمخاطر المترتبة على ارتفاع حرارة كوكب الأرض، لن تجد الدول على أساس فردي خيارا غير الموازنة بين مقايضات الحد من الغازات المسببة للانحباس الحراري الكوكبي بأشكال متفاوتة.
يتمثل التحدي العالمي الثاني في الذكاء الاصطناعي وما يترتب عليه من تعطيل متوقع لأسواق العمل. إن الذكاء الاصطناعي لا يهدد تشغيل العمال فحسب بل وأيضا الأمن، لأنه كفيل بجعل العديد من التكنولوجيات التي تستخدمها الدول للدفاع عن شعوبها وردع العدوان عتيقة بالية. لا عجب إذن أن تتسابق القوى الأكبر مثل الولايات المتحدة والصين للسيطرة على الذكاء الاصطناعي وغير ذلك من تكنولوجيات البيانات الضخمة. وبينما تستمر هذه القوى في إدارة ذلك السباق، فإنها تمارس لعبة غير مستقرة ومتزايدة الخطورة، حيث قد يؤدي كل منعطف تكنولوجي إلى تحويل السياسات جوهريا عن طريق جعل الدفاعات القديمة عديمة الجدوى.
أما التحدي الثالث فيتلخص في الثورة النقدية التي تقودها تكنولوجيات مثل سلسلة الكتل، التي تحمل الوعد بإنتاج أموال غير حكومية. منذ بريتون وودز، كانت الهيمنة النقدية شكلا من أشكال السلطة، وخاصة من منظور الولايات المتحدة. غير أن الأنماط البديلة للمال ستقدم للحكومات والقوى غير التابعة لدول بعينها العديد من السبل الجديدة لتأكيد السلطة أو تجاوز هياكل السلطة القائمة. وبالفعل تعمل العملات الرقمية المشفرة مثل البتكوين على تعطيل الأسواق، وربما تعمل ذات يوم على تغيير العلاقات المالية التي تقوم عليها المجتمعات الصناعية الحديثة.
في الجغرافيا السياسية الجديدة، تنظر الصين وروسيا والهند ودول أخرى إلى كل من هذه التحديات باعتبارها فرصة لتشكيل مستقبل العولمة وفقا لشروطها. وسوف تبدو تصوراتها مختلفة تمام الاختلاف عن نموذج أواخر القرن العشرين. فتنظر الصين على سبيل المثال إلى الذكاء الاصطناعي بوصفه أداة لإعادة تشكيل التنظيم السياسي من خلال المراقبة الجماعية والفِكر الموجه من قِبَل الدولة.
ومن خلال الاستعاضة عن الفردية بالجماعية، يصبح بوسعها دفع السياسة العالمية في اتجاه غير ليبرالي بشكل عميق.
ما يدعو إلى التفاؤل أن الأمر لا يخلو من مسارات بديلة إلى الأمام. ففي إعادة النظر في الاقتصاد والأمن، سوف نحتاج إلى تطوير نهج يعمل على تعزيز الإبداع في إطار مداولات منسقة حول الترتيبات الاجتماعية والسياسية في المستقبل.
ونحن في احتياج إلى تطبيق الخيال البشري والإبداع ليس فقط على عمليات خلق التكنولوجيات الجديدة، بل وأيضا على الأنظمة التي ستحكم هذه التكنولوجيات.
الواقع أن أفضل مستقبل هو ذلك الذي لا تملك فيه الحكومات والشركات المتعددة الجنسيات القدرة على السيطرة على كل المعلومات. يكمن التحدي إذن في ابتكار حلول مقبولة عموما وتستند إلى التعاون وليس تدمير الرؤى المنافسة.

أستاذ التاريخ والشؤون الدولية في جامعة برينستون.