لعبة التجارة العالمية

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ١١/أبريل/٢٠١٨ ٠٥:٣٤ ص
لعبة التجارة العالمية

محمد عبدالله العريان

تشهد المواجهة التجارية بين الولايات المتحدة والصين تصعيداً واضحاً. فبعد إطلاق دُفعة افتتاحية من التعريفات الباهظة على الصلب والألومنيوم، أصدرت الإدارة الأميركية خطة لفرض تعريفة جمركية بنسبة 25%على 1333 بنداً من الواردات الصينية ــ بقيمة بلغت نحو 50 بليون دولار العام الفائت ــ لمعاقبة الصين على ما تعتبره عقودا من الزمن من سرقة الملكية الفكرية. وما كان من الصين إلا أن ردت بخطة تقضي بفرض رسوم بنسبة 25%على مجموعة من السلع الأميركية، والتي تعادل قيمتها نحو 50 بليون دولار أيضا. وفي الرد على ما أسماه «الانتقام غير العادل»، يُقال إن الرئيس الأميركي دونالد ترامب يدرس الآن مجموعة أخرى من التعريفات تغطي ما قيمته 100 بليون دولار أخرى من الواردات من الصين. والآن يندفع خبراء الاقتصاد ومحللو السوق في محاولة لتصور ما قد يأتي لاحقا.

قد يستسلم المرء لإغراء الاعتماد على التجربة التاريخية. ولكن نظرا للظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الغالبة اليوم فمن المرجح أن يكون التاريخ دليلاً هزيلاً. وتأتي رؤى أكثر نفعاً من نظرية الألعاب، والتي قد تساعدنا في تحديد ما إذا كان هذا التبادل للتعريفات الجمركية ليرقى في نهاية المطاف إلى مواقف استراتيجية قد تُفضي إلى «لعبة أكثر تعاونية» (التجارة الأكثر حرية وعدالة)، أو يتطور إلى «لعبة غير تعاونية» أعرض نطاقا (حرب تجارية صريحة). الواقع أن الإجابة على هذا التساؤل سوف تخلف عواقب كبيرة على الآفاق الاقتصادية والسياسية وتوقعات السوق.

أدى التوسع السريع الذي شهدته التجارة في العقود الأخيرة إلى ظهور شبكة من أشكال الاعتماد المتبادل عبر الحدود في مجالات الإنتاج والاستهلاك. فالآن أصبح من الممكن أن تشمل سلاسل الإمداد عددا من الروابط الدولية المهمة لا يقل عن عدد الروابط المحلية، وتُلبى حصة كبيرة من الطلب الداخلي بالاستعانة بمنتجات يجري إنتاجها جزئيا أو كليا في الخارج. وبينما يعمل الإبداع التكنولوجي على تقليص الحواجز التي تحول دون دخول كل من المنتجين والمستهلكين، يُصبِح تكاثر هذه الروابط أكثر سهولة، مما يؤدي إلى تضخيم ما يشكل في الأساس بالفعل خليطا متشابكا من العلاقات وأشكال الاعتماد المتبادل العابرة للحدود.
ولضمان الصحة الأطول أجلا لكل من المشاركين الأفراد والنظام ككل، لابد أن تعمل هذه العلاقات بفعالية، استنادا إلى نهج تعاوني يمكن التعويل عليه. وإذا لم يتوفر هذا النهج فإن هذه العلاقات تهدد بخفض مستوى النمو والرفاهة. ولهذا السبب، أثارت المواجهة الحالية بين الولايات المتحدة والصين المخاوف من حدوث أضرار بالغة، وخاصة إذا قادت إلى تدابير حماية متزايدة النمو و»حرب تجارية» أوسع نطاقا. لكن هذه النتيجة غير مضمونة.
ولكي تعمل هذه التفاعلات الاقتصادية الدولية على النحو الواجب، لابد أن يُنظَر إليها أيضا بوصفها عادلة. وهذه ليست الحال حاليا بين العديد من شرائح السكان على مستوى العالَم. وكما تبين فإن افتراضين أساسيين استندت إليهما الملاحقة غير المقيدة تقريبا للعولمة الاقتصادية (والمالية) في العقود الأخيرة اتسما بالإفراط في التبسيط.
كان الافتراض الأول أن الفوائد المترتبة على التجارة سوف يتقاسمها أغلب السكان بشكل طبيعي، إما مباشرة أو من خلال سياسات التوزيع المناسبة المعمول بها في الاقتصادات الأسرع نموا الآن. وثانيا، كان المفترض أن المشاركين الرئيسيين في التجارة العالمية ــ بما في ذلك الاقتصادات الناشئة التي انضمت إلى العملية ثم في وقت لاحق إلى مؤسساتها الداعمة، مثل منظمة التجارة العالمية ــ سوف تتبنى في نهاية المطاف المبادئ الأساسية للتبادلية، وتستمر تدريجيا في خفض الحواجز الجمركية وغير الجمركية.
وبينما أثبت هذان الافتراضان أنهما مفرطان في التفاؤل، عانى موقف استدامة السياسات الداعمة للتجارة. وكانت النتيجة الارتفاع الملحوظ في النزعة الشعبوية القومية حاليا ــ الاتجاه الذي أدى إلى فرض قيود تجارية جديدة، وإعادة التفاوض المتواصلة على الترتيبات القائمة (مثل اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية)، فضلا عن ردة الفعل العنيفة ضد المؤسسات فوق الوطنية (مثل تصويت المملكة المتحدة لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي).
ماذا إذن عن الخطوات التالية؟ في هيئته الحالية، يحتاج النظام الاقتصادي الدولي إلى العمل كلعبة تعاونية، حيث يلتزم كل المشاركين بالتجارة الحرة النزيهة؛ وحيث تكون هذه الالتزامات جديرة بالثقة ويمكن التحقق من الوفاء بها؛ وحيث توجد آليات لتسهيل ورصد التعاون؛ وحيث يواجه الغشاشون عقوبات فعّالة.
الواقع أن التوترات التجارية الحالية من المحتمل أن تدمر اللعبة التعاونية، فتشعل بذلك شرارة التحول إلى لعبة غير تعاونية تتألف من عناصر «معضلة السجين»، حيث يتبين أن التصرف الذي يهدف إلى تحقيق مصلحة ذاتية مدمر على المستويين الفردي والتبادلي. ولكن لأن هذا يعني خسارة كل الدول فعليا، فقد يكون من الممكن تجنبه، بمساعدة بعض الاستجابات السياسية الموجهة.
بادئ ذي بدء، ينبغي للدول المهمة جهازيا ولكنها ليست منفتحة بالقدر الكافي ــ بدءا بالصين ــ أن تعمل على تحرير اقتصاداتها بسرعة أكبر (وخاصة عن طريق الحد من الحواجز غير الجمركية) والالتزام بالمعايير المقبولة دوليا للملكية الفكرية. وعلاوة على ذلك، لابد من تحديث الترتيبات التجارية القائمة حسب الحاجة، بحيث تعكس على نحو أفضل حقائق الحاضر والمستقبل، في حين ينبغي للشركات وغيرها من الجهات المستفيدة بشكل غير متناسب من التجارة أن تعمل على تكثيف ملاحقتها للأنشطة المسؤولة اجتماعيا. كما ينبغي تجديد وإعادة تنظيم آليات المراقبة والتوفيق المتعددة الأطراف ــ ليس فقط على مستوى منظمة التجارة العالمية، بل وأيضا على مستوى صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ومن الأهمية بمكان أيضا تحسين عمل مجموعة العشرين، بما في ذلك من خلال إنشاء أمانة صغيرة تعمل على تسهيل قدر أعظم من استمرارية السياسات من عام إلى آخر.
نظرا لعدد البلدان التي لها مصلحة في الحفاظ على اللعبة التعاونية، فإن مثل هذه التدابير السياسية ليست مرغوبة فحسب؛ بل وقد تكون عملية وملائمة. فهي تساعد في خلق أساس تعاوني أقوى للتجارة الأكثر عدالة، كما تشكل هذه التدابير خطوة ضرورية (وإن كانت غير كافية) نحو مكافحة تغريب وتهميش قطاعات بعينها من السكان في كل من الاقتصادات المتقدمة والناشئة.

كبير المستشارين الاقتصاديين في أليانز، وكان رئيساً لمجلس الرئيس الأمريكي باراك أوباما للتنمية العالمية.