الاقتصاد العالمي والتغيرات الجديدة

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ٠٨/مارس/٢٠١٦ ٠١:٣٥ ص
الاقتصاد العالمي والتغيرات الجديدة

نورييل روبيني

منذ بدأ هذا العام، واجه الاقتصاد العالمي نوبة جديدة من التقلبات الشديدة في الأسواق المالية، والتي اتسمت بالهبوط الحاد الذي سجلته أسعار الأسهم وغيرها من الأصول الخطرة. ويرجع الأمر إلى مجموعة متنوعة من العوامل: المخاوف بشأن احتمالات الهبوط الاقتصادي الحاد في الصين؛ والمخاوف من تعثر النمو في الولايات المتحدة في وقت حيث بدأ بنك الاحتياطي الفيدرالي رفع أسعار الفائدة؛ والمخاوف من تصاعد الصراع السعودي الإيراني؛ والعلامات الدالة على الضعف الشديد في الطلب العالمي ــ وأبرزها هبوط أسعار النفط والسلع الأساسية بشكل حاد.

وهناك المزيد. إذ يعمل هبوط أسعار النفط -جنباً إلى جنب مع نقص السيولة في السوق، وارتفاع مستويات الاستدانة بين شركات الطاقة الأميركية وأيضاً شركات الطاقة والممالك الهشة في الاقتصادات المصدرة للنفط- على تأجيج المخاوف من وقوع أحداث ائتمانية خطيرة (التخلف عن سداد الديون) وأزمة جهازية شاملة في أسواق الائتمان. ثم هناك المخاوف التي تبدو بلا نهاية بشأن أوروبا، بعد أن أصبح الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي أكثر ترجيحا، في حين تكتسب الأحزاب الشعبوية على جناحي اليمين واليسار المزيد من الأرض في مختلف أنحاء القارة.

وتتضخم هذه المخاوف بفِعل اتجاهات قاتمة في الأمد المتوسط، ما يعني ضِمناً انتشار النمو الأقل من المتوسط. والواقع أن الاقتصاد العالمي في العام 2016 سيظل يتسم بوضع «شاذ جديد»، عندما يتعلق الأمر بالناتج، والسياسات الاقتصادية، والتضخم، وسلوك أسعار الأصول الرئيسية والأسواق المالية.
ولكن ما هي على وجه التحديد الأسباب التي تجعل الاقتصاد العالمي اليوم غير طبيعي؟
أولا، انخفض النمو المحتمل في البلدان المتقدمة والناشئة بسبب أعباء الديون الخاصة والعامة، والشيخوخة السكانية السريعة (والتي تعني ضمناً ارتفاع معدلات الادخار وتراجع الاستثمار)، فضلاً عن مجموعة متنوعة من الشكوك التي تعيق الإنفاق الرأسمالي. وعلاوة على ذلك، لم تُتَرجَم العديد من الإبداعات التكنولوجية إلى ارتفاع في نمو الإنتاجية، وتظل وتيرة الإصلاحات البنيوية بطيئة، في حين تسبب الركود الدوري المطول في تآكل قاعدة المهارات ورأس المال المادي.
وثانيا، كان النمو الفِعلي هزيلاً وأدنى من اتجاهه المحتمل، وهو ما يرجع إلى عملية خفض الديون المؤلمة الجارية، أولاً في الولايات المتحدة، ثم في أوروبا، والآن في الأسواق الناشئة العالية الاستدانة.
وثالثا، أصبحت السياسات الاقتصادية -وبشكل خاص السياسات النقدية- غير تقليدية على نحو متزايد. والواقع أن الفارق بين السياسة النقدية والمالية أصبح ضبابياً على نحو متزايد. فقبل عشر سنوات، من كان ليسمع بمصطلحات مثل «سياسة سِعر الفائدة صِفر»، أو «التيسير الكمي»، أو «التسهيل الائتماني»، أو «التوجيه الآجل»، أو «معدلات الفائدة السلبية على الودائع»، أو «التدخل غير المعقم في سوق الصرف الأجنبي»؟ لا أحد، لأنها ببساطة لم يكن لها وجود.
ولكن الآن أصبحت أدوات السياسة النقدية غير التقليدية هي القاعدة في أغلب الاقتصادات المتقدمة ــ بل وحتى في بعض اقتصادات الأسواق الناشئة. وتعزز التدابير والإشارات الأخيرة الصادرة عن البنك المركزي الأوروبي وبنك اليابان الرأي القائل بأن المزيد من السياسات غير التقليدية آت لا محالة.
وقد زعم بعض المراقبين أن هذه السياسات النقدية غير التقليدية -وما يصاحبها من تضخم الميزانيات العمومية للبنوك المركزية- كانت شكلاً من أشكال خفض قيمة العملات الورقية الإلزامية. ووفقاً لمزاعمهم فإن النتيجة سوف تكون التضخم الجامح (إن لم يكن التضخم المفرط)، فضلاً عن ارتفاع حاد في أسعار الفائدة الطويلة الأجل، وانهيار قيمة الدولار الأميركي، وارتفاع أسعار الذهب وغيره من السلع الأساسية، والاستعاضة عن العملات الورقية التي أصبحت بلا قيمة بعملات رقمية مثل البيتكوين.
ولكن بدلاً من ذلك -وهو وجه الشذوذ الرابع- لا يزال التضخم منخفضاً للغاية ويتجه نحو المزيد من الانخفاض في الاقتصادات المتقدمة، برغم السياسات غير التقليدية التي تنتهجها البنوك المركزية وارتفاع ميزانياتها العمومية. ويتمثل التحدي الذي يواجه البنوك المركزية في محاولة تعزيز التضخم، إن لم يكن تجنب الانكماش الصريح. وفي الوقت نفسه، استمرت أسعار الفائدة الطويلة الأجل في الانخفاض في السنوات الأخيرة؛ وارتفعت قيمة الدولار بشكل كبير؛ وسجلت أسعار الذهب والسلع الأساسية هبوطاً حادا؛ وكان البيتكوين أسوأ العملات أداءً في الفترة 2014-2015.
ويظل التضخم الشديد الانخفاض يمثل مشكلة لأن العلاقة السببية التقليدية بين المعروض من النقود والأسعار انكسرت. وأحد الأسباب وراء هذا أن البنوك تكتنز المعروض الإضافي من النقود في هيئة احتياطيات فائضة، بدلاً من إقراضه (بالمصطلح الاقتصادي، انهارت سرعة المال). وعلاوة على ذلك، تظل معدلات البطالة مرتفعة، فتضعف قدرة العمال على المساومة. وتظل أسواق المنتجات في العديد من البلدان تعاني من قدر كبير من فتور النشاط، في ظل فجوات ضخمة في الناتج وتراجع قدرة الشركات على التسعير (وهي مشكلة القدرة الزائدة التي تفاقمت بسبب فرط النشاط الاستثماري الصيني).
والآن، في أعقاب الانخفاض الهائل في أسعار المساكن في البلدان التي شهدت فترة رواج ثم كساد، انهارت أسعار النفط والطاقة وغير ذلك من السلع. ولنعتبر هذا الشذوذ الخامس الناتج عن التباطؤ في الصين، وزيادة إمدادات الطاقة والمعادن الصناعية (بعد الاستكشاف الناجح وفرط الاستثمار في قدرات جديدة)، والدولار القوي، الذي يضعف أسعار السلع الأساسية.

رئيس مؤسسة روبيني للاقتصاد العالمي