الأشياء أجمل في أماكنها

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ٠٨/مارس/٢٠١٦ ٠١:١١ ص
الأشياء أجمل في أماكنها

محمد بن سيف الرحبي www.facebook.com msrahbyalrahby@gmail.com أكاد أجزم أن الأشياء تبدو أجمل في أماكنها، هناك روحها التي شعّت ذات طفولة، الأمكنة تكبر كما يكبر البشر، وتغدو لها أرواح تعرف كيف تتمسك بجسدها الأم، الأرض. فميلا كيف يسمق برج إيفل في سماء ليست سماء باريس، وكيف يقف تمثال الحرية بعيدا عن نيويورك وكيف تأتلق حجارة الساحة الحمراء بمنأى عن موسكو، وعن ستالين يكاد يسمع تساقط الثلج على مياه نهر الفولجا، فيتجمّد داخل قبره بردا. شخصيا، أعيش الأشياء بجمال أماكنها، حتى الشاي الأحمر لا يغدو بذات نكهته كما هو مذاقه في شرفة قاهرية، ويبدو ألذ حينما يتعالى صوت أم كلثوم في مقهى وسط البلد حيث تسمع صوت حجر النرد يتقافز داخل مربع لعبة الطاولة مع روائح المعسل وحركة النادل يتقافز بخفة بين الطاولات، فتبدو «الست» عملاقة بأجواء المكان، كاتب الكلمات عبر من هنا، والملحن جلس على مقهى من هذه المقاهي، واللهجة مكتوبة بلسان من يجالسونك. وصوت فيروز أبهى حينما تنساب السيارة المرسيدس الأجرة العتيقة على هضبات بيروت كأنما الرحابنة يشتقون ألحانهم من حفيف الأشجار ويموسقون حركة الينابيع مع صوت هذا الهرم الجميل، كما يأتيك صوت وديع الصافي أصفى وأنت تجلس على مطعم لبناني يدين للمكان بنكهات الأشياء حينما تغدو في أمكنتها الأصلية والأصيلة. تصدح فيروز «نحنا والقمر جيران» فتنظر إلى شبابيك بيروت حيث تستشعر أي معنى للقمر حينما يطل على مدينة غنتها فيروز تلالا وجبالا وينابيع وحسن لا يكف عن كتابه قصائده ونثرها على الحناجر. جرّب أن تسمع صوت صباح فخري في صباحات حلب.. وأن تقرأ قصائد نزار قباني في دمشق، ستكتشف أن الياسمين لا يشبه أي ياسمين آخر في بلاد الدنيا، ولا الورد الدمشقي قابل للمنافسة فيتجمّل كما هي قصائد نزار، ويغدو للصبايا حسن الحوريات وفتنة الأميرات. جرّب أن تشرب شاي «الزهورات» في مقهى شامي وأن تتناول «الشاورما» بالمقهى المجاور، كما هو طعم الكنافة وأصابع زينب، وسائر الحلويات وهي تصطف كالصبايا في «الميدان». هل تذوقتم العسل اليمني وأنتم تعبرون باب اليمن في صنعاء القديمة حيث يقف اليماني خلف عشرات الأنواع من الشهد بينما يأتي صوت أيوب طارش وفيا لحبيبه يناديه «خذني معاك» فتتظاهر جبال اليمن بكل ما فيها من عسل، لتصنع من خلايا النحل قصائد تعزف، جرّب حينها أن تسمع أبو بكر سالم في تلك المفاوز العجيبة، وأن تتخيل حسين المحضار يتهيأ لتلحين أغنية جديدة يسري بها عوّاد يمني يقارب بين الجبال بنغم تذوب في وجعه شجنا.. العسل اليماني هناك ألذ والصوت اليماني أعذب.. وللقهوة منها نكهة.. لا تنسى. الأشياء خارج أمكنتها تبدو معلّبة، قد نستعيد بها جمال تلك الأمكنة، لكنه النيل لن يمر خارج القاهرة ولا السين يفارق باريس ولا التايمز سيعتاد العيش خارج لندن..