مايكل جيه. بوسكين
ـ تشهد الولايات المتحدة اليوم تغيرات كبرى، إذ تستعد البلاد لانتخاب رئيس جديد وثلث أعضاء مجلس الشيوخ وأعضاء مجلس النواب بالكامل في نوفمبر من عامنا هذا. وسوف تخلف النتيجة عواقب عميقة على السياسة الاقتصادية في الولايات المتحدة، وبالتالي الاقتصاد العالمي.
في الوقت الحالي، تظل هيلاري كلينتون المرشحة الأوفر حظاً للفوز بترشيح الحزب الديمقراطي، برغم أنها لم تنطلق بعيداً حتى الآن عن منافسها الاشتراكي السيناتور بيرني ساندرز. ويتصدر الملياردير المتحذلق المتغطرس دونالد ترامب المرشحين الجمهوريين، ويأتي في أعقابه السيناتور المهيج المثير للفتن تيد كروز من تكساس، والسيناتور ماركو روبيو المحافظ الموهوب من التيار السائد من فلوريدا، وبعد ذلك بمسافة يأتي حاكم ولاية أوهايو صاحب الشعبية الكبيرة جون كاسيتش وجراح الأعصاب بِن كارسون.
من المستحيل أن نعرف ما إذا كانت هذه الاتجاهات المبكرة ستستمر إلى نهاية ما تبقى من الانتخابات التمهيدية، والتي تتحول الآن إلى الجنوب والغرب الأوسط. وتنهمك وسائل الإعلام الأميركية ومدمنو السياسة الآن في تحليل مختلف الاحتمالات. فهل يتمكن روبيو من حشد تحالف واسع، أو هل يفوز ترامب بترشيح الحزب الجمهوري؟ وهل تساعد نزعة ترامب القومية كلينتون في الفوز بالانتخابات العامة؟
في واقع الأمر، يخشى العديد من الجمهوريين أن ينتهي السباق التمهيدي إلى وضع ترامب في مواجهة كلينتون. فبرغم أن كلينتون لديها الكثير من نقاط الضعف ــ إذ لا يثق بها الناخبون، وخاصة الشباب، فضلاً عن احتمال تعرضها لعواقب قانونية بسبب تعاملها مع معلومات سرية للغاية باستخدام خادم البريد الإلكتروني الخاص بها عندما كانت وزيرة للخارجية ــ فإن الاقتتال الداخلي بين الجمهوريين ربما يعطيها ميزة كبيرة في نوفمبر/. ويعتقد كثيرون من الجمهوريين أن ترشيح ترامب من شأنه أن يكلفهم مجلس الشيوخ والبيت الأبيض.
وفي ظل هذا القدر العظيم من عدم اليقين، هناك عدد من الاتجاهات التي قد تسلكها السياسة في الولايات المتحدة في السنوات المقبلة. ففي حين كان قدر كبير من الانتباه موجهاً لقضايا جديرة بالاهتمام مثل الهجرة والأمن القومي، ينشغل الناخبون الأميركيون إلى حد كبير بالقضايا الاقتصادية ــ المخاوف التي سيتعامل المرشحون الرئيسيون معها بطرق مختلفة للغاية.
فعلى صعيد التجارة، تشكل أفكار ترامب خطورة كبيرة وربما تؤدي إلى إحباط عقود من الزعامة الأميركية الثنائية الحزبية المفيدة في مجال تحرير التجارة، مع فرض تعريفات كبيرة على الواردات الأجنبية، كتلك القادمة من الصين والمكسيك. ولا يناقش المرشحون الديمقراطيون الآخرون هذا الموضوع إلا بالكاد. ومن جانب الديمقراطيين، يهاجم ساندرز التجارة الحرة بعنف ويندد بها. وكانت كلينتون متخبطة بشأن هذه القضية: فهي الآن تعارض خط أنابيب كي ستون الكندي والشراكة عبر المحيط الهادئ، التي كانت تروج لها عندما كانت وزيرة للخارجية. وربما تكون مخاطر الحرب التجارية منخفضة ولكنها في ارتفاع.
كما تقدمت كلينتون ببطء مقتربة من موقف ساندرز بشأن إصلاح النظام المالي، بعد أن مَسَّت هجماته ضدها بسبب تلقيها تبرعات ضخمة ورسوم خطابة من وال ستريت وتراً حساساً بين الناخبين الشباب. وكانت مواجهة بعبع البنوك الضخمة أحد المحاور الرئيسية لحملة ساندرز؛ والآن تردد كلينتون جزئياً مواقفه الشعبوية المناهضة للبنوك. ويفضل الديمقراطيون السياسة النقدية المتساهلة، وأسعار الفائدة المنخفضة، والدولار المنخفض القيمة. كما يعارض الجمهوريون عمليات الإنقاذ، ولكنهم يعربون عن قلقهم إزاء السياسة النقدية المفرطة التساهل والسلطة التقديرية المفرطة التي يتمتع بها بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي بعيداً عن حالات الطوارئ الحقيقية.
وسوف تخلف هذه الفوارق تأثيراً بعيد المدى. فمن خلال تعيين رئيس جديد لبنك الاحتياطي الفيدرالي (أو إعادة تعيين جانيت يلين)، وربما أيضاً تعيين محافظين جدد لبنك الاحتياطي الفيدرالي، سوف يتمتع الرئيس القادم بنفوذ غير مباشر على أسعار الفائدة، وأسعار الصرف، والأسواق المالية العالمية. وإذا ارتفعت الضغوط التضخمية ــ وهو أمر غير مرجح في أي وقت قريب، ولكنه محتمل عندما يكتسب الاقتصاد العالمي المزيد من القوة ــ فسوف تكون استجابة بنك الاحتياطي الفيدرالي عاملاً محدداً رئيسياً للاستقرار الاقتصادي.
والاختلافات هائلة بين المرشحين أيضاً في ما يتصل بخططهم بشأن الضرائب والإنفاق ــ وبالتالي اقتراحاتهم بشأن العجز والدين. فيقترح ساندرز إنفاق نحو 18 تريليون دولار إضافية على مدار العقد المقبل لتغطية نظام الدافِع الواحد في مجال الرعاية الصحية، والاستثمار في البينة الأساسية، والتعليم "المجاني" (بتمويل من دافعي الضرائب) في الكليات العامة. وخلال هذه الفترة، يعتزم فرض زيادة ضريبية بنحو 6.5 تريليون دولار، وأغلب هذه الزيادة سيتحملها "الأثرياء". والأمر اللافت للانتباه هنا هو أن الديمقراطيين يُعَرِّفون "الأثرياء" باعتبارهم الأسر التي يزيد دخلها السنوي عن 250 ألف دولار ــ وهو ما يقرب من راتب زوجين مبتدئين في أول وظيفة لهما بعد التخرج من مدرسة الحقوق. وفي نهاية المطاف، لابد من تغطية العجز الذي يبلغ 11.5 تريليون دولار عن طريق زيادة ضريبية هائلة في المستقبل. وكلينتون لديها أوليات مماثلة في ما يتصل بالإنفاق والضرائب، ولكن بزيادات أصغر.
ويريد الجمهوريون خفض ضريبة الدخل الشخصي وتوسيع القاعدة الضريبية. وهم يعتزمون خفض معدل ضريبة الشركات الأميركية ــ وهي الأعلى بين بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ــ إلى مستوى أكثر تنافسية. ويقترح البعض الاستعاضة عن ضرائب الدخل الشخصية وضرائب الشركات الحالية بضريبة ثابتة على الاستهلاك. كما يعتزم الجمهوريون إبطاء نمو الإنفاق في أغلب المجالات، وفي الوقت نفسه زيادة الإنفاق الدفاعي. وفي حين يقترح ترامب زيادة الإعفاءات الضريبية بمقدار هائل يبلغ 10 تريليون دولار، وبنحو 9 تريليون دولار وفقاً لمقترحات كروز، يعرض روبيو وكاسيتش خططاً ضريبية أكثر اقتصادية ومعقولية من الناحية الحسابية. ولكن لا شك أن اقتراحات الحملات الانتخابية تتسم بالطموح جزئيا، ولابد من التفاوض عليها مع الكونجرس في نهاية المطاف.
وتشير الأدلة التجريبية إلى أن التخفيضات الضريبية أكثر ترجيحاً من زيادة الإنفاق في تحفيز النمو، وأن خفض الإنفاق أكثر ميلاً من الزيادات الضريبية إلى ضبط الميزانيات بفعالية. وفي حين تشير التجارب السابقة إلى أن تقييد نمو الإنفاق لن يكون سهلا، وخاصة مع بلوغ جيل طفرة المواليد في فترة ما بعد 1945 سن الشيخوخة وهو ما يغذي ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية ومعاشات التقاعد، فإن العديد من البلدان ــ بما في ذلك كندا والمملكة المتحدة والسويد، بل وحتى الولايات المتحدة ذاتها ــ تمكنت من القيام بهذا في العقود الأخيرة.
وتصبح الاختلافات بين الجمهوريين والديمقراطيين صارخة عندما يتعلق الأمر بإصلاح تكاليف الاستحقاقات المتضخمة، والتي تشمل التزامات غير ممولة تتجاوز حجم الدين الوطني عِدة مرات. ويعتزم الجمهوريون ــ باستثناء ترامب، الذي يرفض "تخفيضات" الضمان الاجتماعي في المستقبل ــ إبطاء النمو تدريجيا، في حين يقترح الديمقراطيون زيادة فوائد الضمان الاجتماعي. وينبغي لزعيم العالم الحر القادم أن يعلم أن الأولوية الأولى عندما تبدأ السفينة تسريب المياه هي سد موضع التسرب وليس فتح مواضع تسرب جديدة.
الواقع أن السياسات التي يقترحها ساندرز وكلينتون من شأنها في عموم الأمر أن تدفع الولايات المتحدة إلى الاقتراب من دولة الرفاهة الاجتماعية على الطريقة الأوروبية. ولكن كما يشير الجمهوريون، فإن مستوى المعيشة في أوروبا الغربية أقل بنحو 30% من مستوى المعيشة في الولايات المتحدة في المتوسط؛ وأوروبا أيضاً تواجه تباطؤ النمو، وارتفاع معدلات البطالة، وتفاقم التوترات الاجتماعية. ولهذا السبب يريد المرشحون الجمهوريون ــ للرئاسة، ومجلس النواب، ومجلس الشيوخ ــ صَدّ زيادات الرئيس باراك أوباما للضرائب والإنفاق، وإصلاح نظام الرعاية الصحية الباهظ التكلفة، والتضخم التنظيمي.
بوسكين أستاذ الاقتصاد في جامعة ستانفورد،