أوروبا تتطلب تنازلات وطنية

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ٠٨/مارس/٢٠١٦ ٠٠:١٥ ص
أوروبا تتطلب تنازلات وطنية

يوشكا فيشر

اٍن الاستفتاء المقبل للمملكة المتحدة بشأن ما إذا كانت ستظل عضوا في الاتحاد الأوروبي سيضع طبيعة الاتحاد الأوروبي نفسه في خطر. تطمح المملكة المتحدة إلى أوروبا مختلفة عن تلك التي تشكل الاتحاد الأوروبي حاليا، وتفضل أوروبا مكونة أساسا من سوق مشتركة فقط. ومنذ فترة طويلة استطاعت بريطانيا عدم الانضمام إلى منطقة اليورو وغيره (وبالتالي لن تضطر بأي شكل من الأشكال للمشاركة في عملية تعميق اتحاد سياسي في أوروبا)، وهذا هو الجوهر الأيديولوجي للجدل.

ويتجاوز هذا السؤال نقاش "بريكست" أي خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي. وقد أثار تنامي الشكوك حول الفائدة من الإتحاد الأوروبي في العديد من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي نفس الشعور في القارة، حيث يعتقد الكثيرون أن هدف الاتحاد السياسي قد يثقل كاهل مواطني الدول الأعضاء وينبغي التخلي عنه.

ومثل البريطانيين، يتساءل العديد من الأوروبيين القاريين عن مدى ضرورة التنظيم العابر للحدود من قبل مؤسسات مقرها بروكسل والاتحاد السياسي. وهل هيأة فضفاضة من الدول القومية ذات السيادة تتقاسم سوقا مشتركة وأسس الاقتصاد القاري - النموذج البريطاني - ليست كافية؟ فلماذا الاهتمام بهذا التكامل المعقد الذي ينطوي على اتفاقية شنغن والاتحاد النقدي ولوائح الاتحاد الأوروبي، والتي في النهاية لا تشتغل بشكل صحيح وتعمل فقط على إضعاف التنافسية العالمية للدول الأعضاء؟

وإذا نظرنا إلى التاريخ الأوروبي بعد الحرب، سيتضح أن هذا النقاش كان حاضرا منذ البداية تقريبا. فقد كان التركيز في المملكة المتحدة في الخمسينات و الستينات ولا يزال أساسا على السوق المشتركة. اٍن عملية التكامل الأوروبي - الهادفة إلى التغلب على العداوة الفرنسية الألمانية والتوفيق بين الطاقات الصناعية لألمانيا الغربية والاستقرار الأوروبي (والتي تحول دون تكرار الحرب في أوروبا بحماية من الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي) - كانت هامشية بالنسبة لمخاوفها.

وبعد أن قامت معاهدة روما عام 1957 باٍنشاء المجموعة الاقتصادية الأوروبية، تم اٍحداث رابطة التجارة الحرة الأوروبية تحت قيادة بريطانية بعد سنوات قليلة. وكانت أهداف رابطة التجارة الحرة الأوروبية إقامة اتحاد جمركي وسوق مشتركة واضحة، وكانت مصممة منذ البداية على المنافسة مع السوق الأوروبية المشتركة، ولا سيما في شمال أوروبا و الدول المحايدة. لكنها لم تنجح قط.

اٍن السبب وراء فشل رابطة التجارة الحرة الأوروبية مفيد: لقد كانت تقوم الرابطة فقط على المصالح الاقتصادية ولم تبنى على أي فكرة أخرى. ولم يكن للرابطة روح، وقد جعلها هذا العيب غير قادرة على المنافسة مع الاتحاد الأوروبي الذي كان في بدايته.

فقد كانت بطبيعة الحال المصالح الاقتصادية مهمة جدا من أجل الحفاظ على تقدم الاتحاد الأوروبي. لكن فكرة توحيد أوروبا تجاوزت وبشكل واضح التوحيد الاقتصادي البسيط. فقد كان ولا يزال الاتحاد الأوروبي يناضل من أجل التغلب على التجزئة الأوروبية عن طريق عملية التكامل بدءا بالاقتصاد ونهاية بالتكامل السياسي. لقد كان ونستون تشرشل يعرف ذلك، كما يمكن أن نرى في خطابه بمدينة زيورخ سنة 1946 والذي يستحق القراءة اليوم - والذي دعا فيه إلى إنشاء "الولايات المتحدة الأوروبية".

ويعتبر الاتحاد الأوروبي المشروع التاريخي الرئيسي لأوروبا. وقد نجح في المحاولة حتى الآن، واستطاع التعلم من قرون من الحروب التي لا نهاية لها، فمن خلال بناء نظام أوروبي جديد للدول والذي لم يعد يرتكز على توازن القوى وحدها، بل يقوم أيضا على التغلب على المنافسات الوطنية من خلال ترسيخ المصالح والقيم المشتركة. فقد حقق الاتحاد الأوروبي أشياء عظيمة، وهذا لا ينبغي أن ننساه في خضم أزماته الحالية.

اٍن خطأ بريطانيا هو افترضها أن هدفا واحدا، أي السوق المشتركة لأوروبا، يمكن تحقيقه من دون تكامل سياسي أكبر على المدى الطويل. ومن أجل اشتغالها بفعالية، تتطلب السوق المشتركة تفويض قسط كبير من السيادة الوطنية وإجراءات تنظيمية أوروبية واسعة. في الواقع، لا يمكن للاتحاد الأوروبي أن يتجاهل أيا من الدول القومية ولا المؤسسات والسياسات المشتركة دون أن يضع نفسه في خطر. لأن كلاهما جزء لا يتجزأ من أركانه الأساسية.

وقد تميز الاتحاد الأوروبي بهذه الازدواجية منذ البداية: الكنفدرالية مع عناصر اتحادية ومؤسسات متكاملة قوية. ومن يشكك في هذه الازدواجية فاٍنه يضع النظام بأكمله موضع تساؤل، كما أن الوضع الراهن للاتحاد الأوروبي لن يؤدي إلى الاستقرار الدائم. وسيحقق الاتحاد الأوروبي هدفه فقط عندما يتخذ خطوة حاسمة نحو اتحاد حقيقي.

ولهذا السبب يجب على معظم الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي ألا تتخلى عن الهدف الأسمى وهو إنشاء "اتحاد أوثق من أي وقت مضى". اٍن المملكة المتحدة لا تشارك هذا الهدف، وليس من الضروري أن تشاركه. لكن مستقبل الاتحاد الأوروبي يتوقف على السعي إلى تحقيقه. كل شيء آخر هو مسألة تنازلات واقعية، و لبلوغ ذلك هناك قدر كبير من حرية التصرف.

وزير خارجية ألمانيا ونائب مستشارها في الفترة 1998-2005،
وكان قياديا في حزب الخضر الألماني لما يقرب 20 عاما.