محمد محفوظ العارضي
منذ أيام نفذت حلقات عمل رؤية عُمان 2040 جلسات نقاشية حول أحد محاور الرؤية الهامة: "الإنسان والمجتمع". وتناولت الحلقات هذا المحور من جانبين، الأول: تأثير الرؤية على الإنسان والمجتمع من حيث الرفاهية وجودة الحياة، والمحور الثاني دور الإنسان العماني في تنفيذ البعد التنموي الإبداعي للرؤية.
والحقيقة أن العلاقة بين المحورين جدلية، بمعنى أنه لا يمكن الفصل بينهما ولا يمكن وضع أحدهما أولوية على الآخر، فالرؤية في جوهرها تحول ثقافي اجتماعي اقتصادي شامل، ومراعاة هذا الجوهر شرط لنجاحها، لأن الطاقات البشرية عبر التاريخ كانت ولا تزال المحرك الرئيسي للنمو، لذا أنا أضع الثروة البشرية بمعناها الفكري والإبداعي والوجداني قبل كافة الثروات الأخرى ومن بينها النفط.
إن رؤية 2040 واجب وطني لا يقل أهمية عن تلك الواجبات الوطنية الأخرى الملقاة على عاتق الشعوب تجاه بلدانهم في حالة الحرب أو الاعتداء أو في حالة التحرير. لعل الأحداث السياسية المؤلمة التي تمر بالوطن العربي والعالم جعلت من مفهوم الوطنية ملتبساً إلى حد ما، واختزلته في إطار الصراع من أجل التحرر وغيبت بالتالي قضية التنمية التي تعتبر هي الأخرى عملية تحرر من واقع اقتصادي لآخر أكثر كفاءة ومن شكل اجتماعي لشكل أكثر تقدماً ورقياً.
نعم، واجب التنمية واجب وطني يفوق في أهميته وحساسيته واجب التحرر لدى الكثير من الشعوب لأنه يمنح المناعة والقوة والاستقلالية للوطن.
إن خصائص المجتمع العُماني تجعل من التحول الثقافي الاجتماعي والاقتصادي عملية سلسة وعظيمة النتائج، فأصالة الجذور التاريخية للأسرة وقوة الروح الجماعية التي أسست لحالة من الإجماع على سمات المجتمع العُماني، والتناغم بين احترام المؤسسات الرسمية للدولة وقوانينها وسياساتها واحترام العائلة والحرص على حمايتها كمكون اجتماعي، والأهم من ذلك الصورة الذهنية لعُمان والعُمانيين لدى المواطن العربي الذي يحترم ثقافتهم ويعشق حضارتهم ولا ينفك يعبّر عن هذا الحب لعُمان وأهلها في كافة المناسبات والمحافل، تبعث الفخر في النفوس وتحفز مكامن القوة فينا لكي نعمل بجهد ونكون عند حسن ظنهم فينا.
والخصوصية الهامة الأخرى لمسيرة تحقيق رؤية عُمان 2040 هو أننا نمضي نحو الأفضل، ولا نريد أن نكون عكس ما نحن عليه الآن، فكل مرحلة ولحظة في تاريخ عُمان شكلت ملامحنا الحالية وعززت من مكانتنا كمجتمع ودولة ليس في الوطن العربي فقط بل في العالم أجمع.
وبالعودة إلى محور المجتمع والإنسان في الرؤية، فهذا المحور بالذات يظهر مدى الاعتماد على الطاقات الاجتماعية في البناء الوطني والتنمية الاقتصادية، ويخرجها من إطار البرامج النخبوية ويجعلها تصوراً جماعياً يشمل كل فرد وفئة بدون استثناء. إنها مشروع ومهمة جيل بأكمله وليست مجرد برنامج دائرة أو مؤسسة بعينها، وهذا يحيلنا إلى الحديث عن أهمية تفعيل جميع الطاقات لدينا وإطلاقها مؤهلةً في أسواق العمل وساحات الإبداع لنحقق التناغم بين التطور الثقافي للهوية الاجتماعية العُمانية وبين التطور الاقتصادي والتقني المنشود.
الجميل في الحلقات التي انعقدت لمناقشة هذا المحور هو الفئات المشاركة، فعدد كبير من الشباب والطلبة والنساء وممثلي القطاع الحكومي والخاص والمجتمع المدني وذوي الاحتياجات الخاصة، فئات تمثل قيمتين أساسيتين: هما الطموح والحماس الذي يجعل من التقدم في رؤية 2040 أملاً جماعياً يتحقق بجهد جماعي. هذه الفئات ناقشت باستفاضة قضايا التعليم والبحث العلمي والابتكار والصحة والقدرات الوطنية والمواطنة والهوية والتراث الوطني والثقافة بالإضافة إلى اقتصاد المعرفة والثورة الصناعية الرابعة.
وسيكون أجمل بالطبع لو أننا نتوصل إلى صيغة تمكّن هذه الفئات من خلال ممثلين مختارين عنها من متابعة مجريات تحقيق الرؤية والتأثير على مسارها إلى جانب وضع تصور شامل لمخططات تطوير التعليم والبحث العلمي اللذان سيشكلان المحرك الأهم لتطور كافة محاور الرؤية.
لا أحد يختلف على حقيقة أن التطور يجب أن تسبقه نهضة علمية في المحتوى العلمي بشكل عام وفي البحوث والتطوير بشكل خاص، وهنا يجب التركيز عند الحديث عن البحوث العلمية على محاور رؤية 2040 وعلى الإمكانات التي يختزنها الاقتصاد والمجتمع العُماني.
هناك علاقة كبيرة بين تأهيل الطاقات المحلية وجاذبية بيئة الاستثمار في عُمان، فقد تغيرت طبيعة أسواق العمل وعلاقاتها ومخرجاتها خلال السنوات العشر الفائتة تغيراً جذرياً، مما يجعل من الكفاءات المؤهلة بالعلوم شرطاً لقدرة اقتصاد السلطنة على مواكبة هذه المتغيرات، وفاعلية شراكة القطاع الخاص مع القطاع الحكومي في دفع الرؤية نحو غايتها النهائية تتوقف أيضاً على أهلية الكوادر البشرية في كلا الطرفين ومدى تمكنها من علوم الإدارة الحديثة وقدرتها على الإبداع والابتكار. منذ زمن قصير كانت البيروقراطية الإدارية تشكل أحد أهم معوقات الاستثمار، واليوم أصبحت البيروقراطية المعرفية، أي محدودية معرفة الكوادر البشرية بآليات السوق هي المعوق الأساسي الذي يجب التعامل معه بجدية.
في القمة العالمية للحكومات التي انعقدت في دبي هذا العام، تحدث جيم يونغ كيم رئيس مجموعة البنك الدولي عن فرادة الاستثمار في التعليم في السلطنة، وأشاد بهذه التجربة وقدمها في حديثه أمام الحضور كنموذج لدول المنطقة والوطن العربي بشكل عام. هذه الشهادة مبعث فخر لأنها جاءت بعيدة عن أي مجاملة أو التزام دبلوماسي من قبل رئيس مجموعة البنك الدولي. هذه الشهادة تشكل دليلاً قاطعاً على أن السلطنة تولي محور الإنسان والمجتمع في رؤية 2040 أهمية خاصة، وأن هذا المحور سيشكل على المدى القريب والبعيد رهاننا الأكبر على تحقيق الرؤية وعلى تناغم التقدم المنشود على كافة القطاعات، لأن طاقة هذا التقدم محلية وطنية عامة وليست نخبوية في تركيبتها أو أهدافها.
محمد محفوظ العارضي
رئيس مجلس الإدارة التنفيذي في انفستكورب