إنقاذ الوسط المنكمش

مقالات رأي و تحليلات الخميس ٢٩/مارس/٢٠١٨ ٠٢:٣٨ ص
إنقاذ الوسط المنكمش

محمد عبد الله العريان

ذات يوم كان العديد من المراقبين ينظرون إلى الوجود عند وسط عملية التوزيع -اجتماعيا، وسياسيا، وفي عالَم الأعمال- باعتباره نتيجة محببة وداعمة للاستقرار ومرغوبة. ومن العمل كمرساة في مجتمع الطبقة المتوسطة إلى رشاقة ومرونة الشركات متوسطة الحجم، كان كثيرون ينظرون إلى الوسط على أنه مكان متّسق مع الرفاهية الفردية والجماعية. ومع ذلك، في السنوات الأخيرة، أصبح الوسط أقل استقرارا، وأقل وضوحا في ما يتصل بتصرفاته المحتملة، وأكثر مراوغة، وأصبحت أوليته -في الاقتصاد، والسياسة، والأعمال، وإدارة الأصول، بل وحتى الرياضة- غير قابلة للاستدامة على نحو متزايد.

الواقع أن الوسط تآكل -أو بات معرَّضا لخطر التآكل- بفِعل تغيّرات بنيوية، فضلا عن تأخر الاستجابات في عالَم الأعمال والسياسات، حيثما نظرت تقريبا. وإذا استمر هذا الاتجاه -وهذا محل مناقشة- فسوف تكون العواقب بعيدة المدى.

لعقود من الزمن، ساعد ارتفاع دخل الأسرة المتوسطة في الاقتصادات المتقدّمة على ترسيخ نمو طبقة متوسطة كانت تميل غالبا إلى اختيار الوسط السياسي. وإلى جانب مؤسسات مستقرة وجديرة بالثقة، عملت الطبقة المتوسطة كعامل استقرار لمجتمع أكثر ازدهارا. وفي عالَم الأعمال أيضا، كان المراقبون ينظرون إلى البيئة حيث ازدهرت الشركات متوسطة الحجم على أنها بيئة مرغوبة؛ لأنها ساعدت في تسوية الخلافات بين الشركات الصغيرة وميل نظيراتها الأكبر حجما إلى احتكار القِلة الراضية عن الذات.
بيد أن الدخول المتوسطة أصابها الركود، والذي تسبّب تدريجيا، مقترنا بتأثير التكنولوجيا وعدم كفاية اهتمام السياسات بالتأثيرات التوزيعية المحتملة الناجمة عن العولمة الجامحة، في تفريغ الطبقة المتوسطة في مختلف أنحاء العالَم. ونتيجة لهذا، أصبح الأمل في حياة مُرضية في الطبقة المتوسطة، والواقع الذي يحمل إمكانية الحراك الاجتماعي الصاعد، في انحسار.
بالإضافة إلى إضعاف قوة اجتماعية مهمة داعمة للاستقرار، أفضى تقليص الطبقة المتوسطة إلى تغذية سياسات الغضب وتقويض الوسط السياسي، الذي كان حتى الآن خاضعا لهيمنة أحزاب راسخة.
كما يثبت الوسط كونه أقل دعما للأعمال واستقرارها. ففي قطاع تلو الآخر، تواجه الشركات متوسطة الحجم قدرا أعظم من المنافسة من قِبَل الشركات الصغيرة المعطلة للنظم القائمة أو الشركات الكبرى.
يُلقي هذا المثال الأخير الضوء أيضا على تساؤلات مهمة تتعلّق بما ينتظرنا في المستقبل. فهل يكون تآكل الوسط أمرا حتميا حقا؟ وهل أصبحنا في خضم ما يسمّيه أهل الاقتصاد «التوازن المتعدد»، حيث يتسبّب تحوّل غير موات في جعل حدوث تحوّل آخر أشد سوءا أكثر احتمالا؟ أو هل يؤدي مزيج التراجع الطبيعي باتجاه الوسط والسياسات المستجيبة إلى استعادة سلامة الوسط وفوائده؟
نظرا للتغيّرات السريعة في التكنولوجيا والارتباكات السياسية، بات من الصعب أن نعرف ماذا ينتظرنا. ولكن يبدو أن هناك مؤشرات كافية تشير إلى إمكانية استعادة الوسط القوي في مناطق بعينها إذا تكيّفت السياسات بسرعة كافية. ولعل هذه هي الحال عندما يتعلّق الأمر بالسياسات الاقتصادية، حيث يوجد أخيرا اعتراف أكبر بأهمية التغييرات البنيوية والتأثيرات التوزيعية.
على سبيل المثال، بدأ أهل الاقتصاد يقاومون الميل إلى الاعتماد على عدد كبير للغاية من الافتراضات التبسيطية التي تسهل عملية وضع النماذج لكنها معزولة عن الواقع. كما بدأ أهل الاقتصاد في إصلاح الشمول المنقوص للروابط المالية والرؤى المستلهمة من العلوم السلوكية، فضلا عن التركيز المفرط على ظروف التوازن المنفرد. وهم عاكفون على تعميق فهمهم للتعجيل بالتغيّرات البنيوية المرتبطة بالتكنولوجيا، وتأثير الصين وغيرها من الاقتصادات الناشئة، وسياسات الغضب.
من المرجح أيضا أن يؤدي تراجع الوسط في عالَم الأعمال إلى حدوث بعض النكسات، وإن كان التأثير سيختلف بشكل كبير في الصناعة وسيواجه بتحديات مستمرة من قِبَل رياح بنيوية معاكسة. والأرجح أن يحدث هذا في بعض الصناعات، مثل التكنولوجيا الضخمة، حيث من المرجّح أن تكون الاستجابة التنظيمية إحدى نتائج ردة فعل عنيفة متطوّرة.
الواقع أن هذه التطوّرات كفيلة بإبطاء ما كان حتى الآن يشكّل هجرة معززة ذاتيا بعيدا عن الوسط. لكن استعادة الإيمان بجدوى الوسط والرغبة في تعزيزه -وهو الاعتقاد بأن الوسط قوي بالدرجة الكافية لتعزيز الاستقرار والرخاء- ستستغرق بعض الوقت وستتطلب جهودا مستدامة. والواقع أن فقدان الإيمان على هذا النحو، والذي يزداد تعقيدا بفِعل التغيّر التكنولوجي المتسارع وتفتت النظام الدولي، يقطع شوطا طويلا نحو تفسير لماذا يبدو المستقبل أكثر غموضا، ولماذا يشعر الشخص المتوسط بقدر أكبر من عدم الاستقرار.

كبير المستشارين الاقتصاديين في أليانز، وكان رئيسا لمجلس الرئيس الأمريكي باراك أوباما للتنمية العالمية.