أزمة التفكير العربي!

مقالات رأي و تحليلات الخميس ٢٩/مارس/٢٠١٨ ٠٢:٣٨ ص
أزمة التفكير العربي!

علي ناجي الرعوي

حاول باحثون ومفكّرون ومتتبعون لصيرورة الصراعات والحروب الدائرة في المنطقة العربية استكناه أسباب هذه الفوضى غير المسيطر عليها وما يصاحبها من أحداث عنف ومشكلات اقتصادية واجتماعية وتحوّلات مباغتة وغير منطقية أو عقلانية لعلهم يصلون إلى إجابة على السؤال اللغز: لماذا يحدث كل ما يحدث في هذه المنطقة إلى درجة أصبحت فيها تدور في حلقة جهنمية من التوترات والنزاعات والتحلل والتهتك فضلا عن عوامل الفقر والتخلّف والأمية مع أنها التي تختزن ثروات هائلة وتتبوأ موقعا استراتيجيا لا مثيل له على مستوى الكرة الأرضية؟

لقد أدركت تلك النخب الفكرية والسياسية التي شاركت في منتدى فالداي بموسكو الشهر الفائت أثناء نقاشاتها للأوضاع المضطربة في منطقة الشرق الأوسط أن أكثر الأزمات التهابا تتركز في المحيط العربي ولذلك سعت إلى تشخيص هذه الأزمات انطلاقا من العودة إلى التاريخ وشقوقه والجغرافيا وتقاطع المصالح فيها ونشأت الدولة القطرية العربية وما لازمها من ظروف وتناقضات، كما استعانت هذه النخب بمختلف النظريات والتحليلات المتداولة عن صراعات العرب والنزاعات الحدودية بين أقطارهم والانقسامات البينية التي تشهدها بعض بلدانهم والتي عادة ما تبدأ سياسية ثم لا تلبث أن تتحوّل إلى حروب طائفية أو أهلية، وببساطة شديدة فقد توصلت تلك النخب إلى مؤشرات تؤكد على أن الوضع العربي يتّجه نحو طريق مسدود بعد أن أضحى التشتت والتمزق العربي هو سيد الموقف وصارت معظم البلاد العربية ساحة مفتوحة للمتنافسين على تقسيميها وتفتيتها ومصادرة قرارها السيادي.

وفيما سعى العالم العربي خلال القرن العشرين قدر استطاعته للحصول على مكانة متقدمة في سباقات الدول الكبرى إلا أنه فشل في الاستفادة من أي سباق من هذه السباقات مما أسهم في تراجع مكانته لصالح دول أخرى في الشرق الأوسط أصبحت الآن مشاركة بقوة في صنع مستقبل هذا الإقليم، وفي المقابل غدت 22 دولة عربية مجتمعة أقل تأثيرا ووزنا من بعض الأقطاب الإقليمية مع أن العرب كانوا أول تنظيم إقليمي يُقام بعد الحرب العالمية الثانية إلا أنهم أخفقوا موضوعيا في النهوض بالجامعة العربية مما أفقدها دورها وفاعليتها.
لم تكن الشخصيات العربية التي شاركت في مناقشات منتدى فالداي وهي التي توزعت بين رؤساء سابقين وسياسيين بارزين ومفكّرين مخضرمين هي الوحيدة التي استخدمت الخطوط الأولى التي سنورثها للأجيال المقبلة والقائمة على فرضية أن العرب هم ضحايا (مؤامرة دولية شريرة) لكن الثابت أن تلك الشخصيات كانت في مقدمة من يجعلون من هذه النظرية مصدرهم الأساس لتحليلاتهم وأطروحاتهم وحتى تخيلاتهم إذ كان من السهولة عليها إلقاء اللوم على الآخرين وتحميلهم مسؤولية كل ما أحاق بالعالم العربي من النكسات والنكبات التاريخية حيث وإن ادّعاء كهذا لا يحتاج أكثر من القول بان الغرب يتآمر علينا ويعمل جاهدا على أن يظل العالم العربي أسيرا للحروب والنزاعات حتى تبقى المنطقة العربية تحت سيطرته.
وأمام هذا المعطى الفكري فقد تساءل باحث روسي عن الأسباب التي تجعل العرب يعتقدون أن الولايات المتحدة طالما أحبطت كل محاولة في اتجاه قيام نظام عربي يستطيع التأثير الجيوسياسي أو الجيوستراتيجي في المحيط الإقليمي أو على مستوى أبعد من هذا المحيط؟ وما هي الدوافع التي تجعل العرب أيضا -كما يطرح ذلك الباحث الروسي- يظنون أن روسيا تعمل على دعم الأقليات بهدف تكريس الصراعات الطائفية والإثنية والأيديولوجية داخل الدول العربية؟ وإذا سألتهم ما هي مصلحة الغرب أو روسيا في نشر الفوضى فإن الجواب الحاضر هو من أجل إفساح المجال لتفوّق إسرائيل بالنسبة للغرب وتقوية نفوذ إيران في المنطقة بالنسبة لروسيا.
والحقيقة الموجعة أن لنظرية المؤامرة عند النخب العربية تاريخ طويل وما زلنا نتذكّر قصة تلك النخب عند احتلال العراق العام 2003م إذ جرى استحضار هذه النظرية لتفسير سبب عدم قدرة العرب على منع تدمير هذه الدولة، وقد نفهم حين يتآمر الغرب علينا لكن كيف نفهم أن يتأمر العرب على بعضهم البعض.. أليس العرب هم من وقفوا إلى جانب أمريكا حينما قرّرت غزو العراق؟ وأليست القمم العربية من شرعنت الحروب العسكرية في سوريا وليبيا واليمن ومن أعطت الضوء الأخضر لتدمير هذه البلدان؟ بل وما هو الفرق بين عرب القرن الحادي والعشرين وعرب الأندلس الذين تآمروا على بعضهم البعض ووضعوا أيديهم بأيدي الأجنبي لينتهي المطاف بهزيمة ملوك الطوائف العربية وضياع الأندلس.
لن أقول إن المؤامرات لا تحدث في هذه الحياة لكن ما الذي نستفيد فعلا من وضع كل شيء في قالب المؤامرة غير التسليم بأن الأمور خارج أيدينا والمتأمرين هم من يحددون مصيرنا ويرسمون مسارنا مع إن المشكلة ليست في أن هناك من يتآمر علينا وإنما في أزمة العقل العربي الذي يشعر بأن كل شيء يحدث حوله يندرج في إطار المؤامرة مما أوجد لدى الناس في العالم العربي شعورا بالإحباط والإحساس باللاجدوى وأن الانعتاق من هذا الواقع هو ضرب من المستحيل.
إن استسلام العقل العربي لنظرية المؤامرة قد جعلته يستنتج أفكاره من خارجه فابتعد كليا عن البحث في الأسباب التي دفعت بالمجتمعات العربية إلى الركون والخضوع والخنوع والدخول في مرحلة الموت البطيء التي تقترب بها من حافة الانهيار؛ فالإنسان في هذه المجتمعات لا شك وأنه أصبح مرتهنا لذهنية خاملة يشعر معها بالعجز أو الفشل أو بصعوبة التحكم في حياته اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، وهنا تتكرر الصورة الكالحة حينما يفقد هذا الإنسان إرادة التغيير وتنتزع منه محفّزات نقد الذات وكل ما يتعلّق بممارسة دوره على صعيد البناء والتطوّر إذ إنه وبدلا من أن يكون طرفا في مواجهة احتقانات الواقع مهما كانت مؤلمة يهرب إلى «ميكانيزم» دفاعي يُعرف في علم النفس بـ(الإنكار) أي إنكار ذلك الواقع والتشبّث بتفسيرات عصية على الفهم.
ليس من التجنّي القول إن العرب لم يعودوا يشكّلون بمجموعهم قوة إقليمية إذ لم يعُد للعرب مجموع بعد أن أصبحوا مجرد دول مستضعفة وموزعة الولاءات تتآمر ضد بعضها البعض، وما لم يتغلّب العقل العربي على أزمته ويتجاوز هذه الأزمة فإن هذه الأمة مهدّدة بالهلاك والاختفاء من خريطة العالم غير المعتدل في موازينه ورؤيته واهتماماته.

كاتب يمني