لا تهملوا التلوث

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ٢٦/مارس/٢٠١٨ ٠٤:٤٦ ص

فيليب جيه. لاندريجان
ريتشارد فولر

يُعَدّ التلوث أحد التحديات الوجودية الكبرى في القرن الحادي والعشرين. فهو يهدّد استقرار النظم البيئية، ويقوّض التنمية الاقتصادية، ويهدّد صحة البلايين من البشر. ورغم كل هذا، كان ذلك التهديد موضع تجاهل غالبا، سواء في استراتيجية النمو التي تنتهجها بلدان العالَم أو في ميزانيات المساعدات الخارجية، كتلك التي تخصصها المفوضية الأوروبية والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية. ونتيجة لهذا، يستمر التهديد في النمو.

تتمثّل الخطوة الأولى نحو تعبئة الموارد، والقيادة، والمشاركة المدنية اللازمة للحد من خطر التلوث في زيادة الوعي بالحجم الحقيقي لهذا الخطر. ولهذا السبب قمنا بتشكيل لجنة لانسيت المعنية بالتلوث والصحة: لجمع بيانات شاملة حول التأثيرات الصحية التي يخلّفها التلوث، وتقدير تكاليفه الاقتصادية، وتحديد ارتباطه بالفقر، واقتراح أساليب ملموسة للتصدي له.

في أكتوبر الفائت، نشرنا تقريرا يفعل ذلك على وجه التحديد. وقد وجدنا أن التلوث مسؤول عن تسعة ملايين حالة وفاة سنويا، أو نحو 16% من كل الوفيات على مستوى العالَم. وهذا يعادل ثلاثة أضعاف الوفيات الناجمة عن الإيدز، والسل، والملاريا مجتمعة، وخمسة عشر ضعف الوفيات الناجمة عن كل الحروب، والإرهاب، وغير ذلك من أشكال العنف. وفي الدول الأشد تضرُّرا، كان التلوث مسؤولا عن أكثر من وفاة واحدة بين كل أربع وفيات.
تتباين الأسباب المحددة لمثل هذه الوفيات، وهو ما يعكس تركيبة متغيّرة من أشكال التلوث. فمع تطوّر البلدان، تتراجع مستويات تلوث الهواء والماء المنزلي -من أشكال التلوث القديمة المرتبطة بالفقر الشديد. لكن الظواهر المرتبطة بالتنمية الاقتصادية -على وجه التحديد، التوسع الحضري، والعولمة، وانتشار المواد الكيميائية السامة والسيارات التي تعمل بالوقود البترولي- تؤدي إلى ارتفاع مستويات تلوث الهواء المحيط، والتلوث الكيميائي، والتلوث المرتبط بالمهنة، وتلوث التربة، وتتحمّل المدن في البلدان النامية القدر الأعظم من الضرر.
من غير المستغرب أن يتحمّل الفقراء وطأة عبء التلوث. فما يقرب من 92% من الوفيات المرتبطة بالتلوث تحدث في الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط. وفي الدول على كل المستويات الاقتصادية، يكون المرض الناجم عن التلوث أكثر انتشارا بين الأقليات، وأعضاء الجماعات المهمّشة، وأولئك المعرَّضين للخطر بطرق أخرى.
إلى جانب التكاليف البشرية، تتسبّب الأمراض المرتبطة بالتلوث في إحداث خسائر في الإنتاجية تقلل من الناتج المحلي الإجمالي في الدول النامية بنسبة قد تصل إلى 2% سنويا. وهي تمثل 1.7% من الإنفاق على الرعاية الصحية في الدول ذات الدخل المرتفع، وقد تصل إلى 7% في الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط. وتبلغ خسائر الرفاهة الاجتماعية الناجمة عن التلوث نحو 4.6 تريليون دولار أمريكي سنويا -6.2% من الناتج الاقتصادي العالمي. ولا يشمل هذا التكاليف الباهظة المترتبة على تغيّر المناخ، والذي كان إحراق الوقود الأحفوري شديد التلوث المساهم الرئيسي في إحداثه.
رغم هذه الخسائر، من المتوقع أن تزداد المشكلة سوءا على سوء. ففي غياب التدخل القوي، قد تزيد الوفيات الناجمة عن تلوث الهواء المحيط فقط بنحو 50% بحلول العام 2050. ويشكّل التلوث الكيميائي تحديا آخر متناميا، مع اختراع ما يقدّر بنحو 140 ألف مركّب كيميائي جديد منذ العام 1950، ولم يخضع إلا قِلة قليلة منها للاختبار في ما يتصل بسلامتها أو سميّتها. ويُعَدّ الأطفال الرضّع والصغار أكثر عُرضة لخطر التلوث الكيميائي.
إن التلوث ليس «شرا لا بد منه» ومن المحتم أن يصاحب التنمية الاقتصادية. فبالاستعانة بنهج قائم على القيادة الرشيدة، وتوفير الموارد، والبيانات جيّدة الصياغة، يصبح من الممكن الحد من التلوث، وقد جرى بالفعل وضع استراتيجيات قابلة للتطبيق، واختبارها ميدانيا، وإثبات فعاليتها في الدول ذات الدخل المرتفع والمتوسط.
توازن هذه الاستراتيجيات بين الحلول القانونية والسياسية والتكنولوجية. على سبيل المثال، بعد تبنّي مبدأ «الملوث يدفع»، أصبحت هذه الاستراتيجيات تشمل إلغاء الإعفاءات الضريبية وإعانات الدعم التي تحصل عليها الصناعات الملوثة. وعلاوة على ذلك، تلتزم هذه الاستراتيجيات بأهداف وجداول زمنية واضحة يجري تقييمها بشكل مستمر وتخضع لتدابير إنفاذ قوية. كما يمكن تصديرها للمدن والدول على كل مستويات الدخل في مختلف أنحاء العالَم. ومن خلال التخطيط الدقيق والتطبيق جيّد التمويل لاستراتيجيات مكافحة التلوث يصبح بوسع الدول النامية أن تتجنّب أسوأ أشكال الكوارث البشرية والبيئية التي صاحبت النمو الاقتصادي في الماضي. وبات من الممكن الآن أن ننسى تماما الافتراض القديم القائل بأن الدول الفقيرة يجب أن تتحمّل مرحلة من التلوث والمرض على الطريق إلى الرخاء.
في الدول الغنية والفقيرة على حد سواء، من شأن هذه الاستراتيجيات أن تُفضي إلى نمو أكثر استدامة للناتج المحلي الإجمالي. فقد عادت إزالة الرصاص من البنزين على سبيل المثال ببلايين الدولارات على الاقتصادات في مختلف أنحاء العالَم؛ لأن انخفاض مستوى التعرّض للرصاص يعني الحد من الضعف الإدراكي وارتفاع الإنتاجية. وفي الولايات المتحدة، حقق تحسين نوعية الهواء نحو 30 دولارا في مقابل كل دولار استُثمر فيه، بعائد إجمالي بلغ نحو 1.5 تريليون دولار على استثمار بقيمة 65 بليون دولار منذ العام 1970. وعلى هذا فإن الحد من التلوث يساعد في إيجاد فرص هائلة لتعزيز النمو الاقتصادي، في حين يعمل -وهو الأمر الأكثر أهمية- على حماية أرواح وصحة البشر في مختلف أنحاء العالَم. وتدعو لجنة لانسيت الحكومات الوطنية والبلديات، والمانحين الدوليين، والمؤسسات الكبرى، ومنظمات المجتمع المدني، والعاملين في مجال الصحة إلى جعل مكافحة التلوث أولوية أعلى كثيرا مما هي عليه الآن. ويتطلب هذا زيادة كبيرة في التمويل المخصص لمنع التلوث في الدول منخفضة ومتوسطة الدخل، سواء من الميزانيات الوطنية أو مساعدات المانحين. ويمكن تحقيق ذلك على المستوى الدولي من خلال توسيع البرامج القائمة أو إنشاء صناديق جديدة قائمة بذاتها، ومماثلة للصندوق العالمي لمكافحة الإيدز والسل والملاريا. وينبغي لهذه البرامج أن تساعد في دفع وتكميل المساهمات الوطنية، في حين تعمل على توفير المساعدات الفنية ودعم البحوث. ومن الممكن استخدام التمويل الدولي أيضا لدعم عملية إنشاء «مرصد عالمي للتلوث».
كما يعني التحكم الفعّال في التلوث ترسيخ استراتيجيات للوقاية في كل استراتيجيات النمو والتنمية في المستقبل، وإدراك حقيقة مفادها أن النجاح لن يتسنى إلا إذا غيّرت المجتمعات أنماط الإنتاج والاستهلاك والنقل. وتشمل الخطوات الأساسية هنا إيجاد الحوافز لانتقال أوسع نطاقا إلى مصادر للطاقة غير ملوثة، وإلغاء إعانات الدعم والإعفاءات الضريبية للصناعات الملوثة، ومكافأة إعادة التدوير وإعادة الاستخدام، والإصلاح، والاستعانة ببدائل أكثر أمانا في محل المواد الخطرة، وتشجيع وسائل النقل العامة والنشطة.
لن يكون الانتقال إلى أنظمة أقل تلويثا بالمهمة السهلة، وسيلقى معارضة شرسة في مختلف أنحاء العالَم من قِبَل المصالح الخاصة. ولكن كما يُظهِر تقرير لجنة لانسيت، يشكّل التحوّل إلى التلوث المنخفض ضرورة أساسية لصحة ورفاهة وازدهار مجتمعاتنا. ونحن لا نملك ترف إهمال هذا التهديد العالمي بعد الآن.

فيليب جيه. لاندريجان: عميد الصحة العالمية في معهد أرنولد للصحة العالمية.

ريتشارد فولر: رئيس بيور إيرث (الأرض الطاهرة).