الأمن والخروج البريطاني

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ٢٦/مارس/٢٠١٨ ٠٤:٤٦ ص

تشارلز تانوك

تعج بعض لحظات التاريخ بعجيب المفارقات. وإذا أردنا أنا نلقي نظرة سريعة على مثال معاصر، فما علينا إلا أن ننظر إلى المملكة المتحدة. فمع اقتراب مفاوضات الخروج البريطاني مع الاتحاد الأوروبية من نقطة تحوّل -اجتماع المجلس الأوروبي هذا الشهر- تطلب الحكومة البريطانية المساعدة من شركائها الأوروبيين، الذين تزدريهم، في نزاعها مع روسيا بشأن محاولة اغتيال العميل المزدوج الروسي الأسبق سيرجي سكريبال وابنته في ساليزبيري بإنجلترا.

ولكن حتى قبل الهجوم على سكريبال -الذي استُهدِف بغاز الأعصاب نوفايشوك الذي صمّمه السوفييت- أصبحت رئيسة الوزراء تيريزا ماي أكثر صراحة ومباشرة في تسليط الضوء على القيم والمصالح المشتركة بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، بما في ذلك القيم المتعلقة بالأمن والدفاع. بل إنها اقترحت في مؤتمر ميونيخ الأمني الذي انعقد الشهر الفائت إقامة «شراكة عميقة وخاصة» حول مثل هذه الأمور.

في السيناريو الذي تفضّله تيريزا ماي، تستمر المملكة المتحدة في المشاركة الكاملة في هيئات الاتحاد الأوروبي مثل يوروبول (منظمة الشرطة للاتحاد الأوروبي)، مع دعم أوامر الاعتقال الأوروبية. وعلاوة على ذلك، تحافظ المملكة المتحدة على مشاركتها في مهمات السياسة الأمنية والدفاعية المشتركة الحالية والمستقبلية للاتحاد الأوروبي، وتواصل التنسيق مع الاتحاد الأوروبي حول أنظمة العقوبات بموجب السياسة الخارجية والأمنية المشتركة.
من المؤكد أن الهجوم على آل سكريبال عزز من اهتمام تيريزا ماي بضمان التعاون الأمني القوي بعد الخروج البريطاني. إذ إن أفضل طريقة للتعامل مع هذا النوع من التهديد الخارجي المتمثل في ذلك الهجوم هي التعاون مع الحلفاء. ولكن هل يأخذ حلفاء المملكة المتحدة تيريزا ماي على محمل الجد؟
في ميونيخ قالت تيريزا ماي: «إن أولئك الذين يهددون أمننا لا يريدون شيئا أكثر من رؤيتنا ممزقين... ورؤيتنا ونحن ندير المناقشات حول الآليات والوسائل قبل أن نفعل الشيء الأكثر عملية وفعالية في الحفاظ على سلامة شعبنا». ثم بعد تأكيدها على أن المملكة المتحدة اتّخذت قرارا مشروعا وديمقراطيا بترك الاتحاد الأوروبي، خلصت إلى أن الكرة الآن باتت في ملعب الاتحاد الأوروبي. وعلى حد تعبيرها فإن عدم قبول عرضها السخي حول التعاون الأمني الوثيق يرقى إلى «إعطاء الأولوية للعقيدة السياسية والأيديولوجية».
لم تفت المفارقة التي انطوى عليها موقف تيريزا ماي على الدول الأعضاء السبع والعشرين في الاتحاد الأوروبي والتي قرّرت المملكة المتحدة أن تتركهم من خلفها. فمن خلال إثارة الشكوك حول وحدة أوروبا -والغرب بأسره في واقع الأمر- يلحق الخروج البريطاني ذاته ضررا جسيما بالأمن الأوروبي، وكل هذا في سبيل العقيدة السياسية والأيديولوجية.
لا شك أن المتشددين من أنصار الخروج البريطاني مثل وزير التجارة ليام فوكس يزعمون أن العلاقة الخارجية الوحيدة التي تحتاج إليها المملكة المتحدة لدعم أمنها هي مع منظمة حلف شمال الأطلسي، بقيادة الولايات المتحدة. ومع ذلك، في حين يظل حلف شمال الأطلسي بوضوح المصدر الأساسي للأمن الأوروبي، فلا ينبغي لأحد أن يكون على استعداد لإسناد أمنه للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي يبدو أنه يكنّ قدرا من الاحتقار للحلفاء أكبر من ذلك الذي يكنّه لخصوم مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وكما حذّر رؤساء الاستخبارات في بريطانيا وفرنسا وألمانيا في بيان مشترك لم يلفت الانتباه كثيرا في إطار مؤتمر ميونيخ، فإن أي انهيار في التعاون الأمني بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي سيخلّف عواقب وخيمة.
ولكن لا يجوز لتيريزا ماي أن تتوقع الحفاظ على مستوى التعاون الأمني الحالي بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، وخاصة في سياق الخروج البريطاني «الصعب» الذي تسعى إليه. فعندما تغادر المملكة المتحدة الاتحاد الأوروبي فإنها بذلك تخسر حق صياغة الأطر المؤسسية التي طالما دعمت أمنها. وهذا يترك تيريزا ماي أمام خيارين: فإما أن تترك هذه الأطر من خلفها -وهي خطوة بالغة الخطورة- أو تقبل شروط الاتحاد الأوروبي، أو أغلبها على الأقل.
على سبيل المثال، لا بد أن يغطي الإطار القانوني للبيانات المرتبطة بالأمن البيانات التجارية أيضا. فإذا كان بوسع المملكة المتحدة أن تتسامح مع منح الاختصاص في هذا المجال لمحكمة أوروبية عليا، كما أوحى خطاب تيريزا ماي في ميونيخ، فما الذي يمنعها من التسامح في مجالات أخرى؟ الواقع أن محكمة العدل الأوروبية تتمتع بسمعة لا تشوبها شائبة كهيئة قضائية مستقلة وقد دافعت بشكل عادل عن مصالح المملكة المتحدة عِدة مرات.
مثل هذا النهج من شأنه أن يولّد قدرا كبيرا من حسن النوايا في المفاوضات. وهذا، إلى جانب الأصول والخبرات الأمنية التي تتمتع بها المملكة المتحدة، من شأنه أن يُوجِد الحيّز اللازم للبلاد للحصول على تنازلات فريدة من جانب الاتحاد الأوروبي، مثل وضع المراقب الدائم في لجنة الاتحاد الأوروبي السياسية والأمنية المؤثرة.
ولكن ليس من المؤكد ما إذا كانت المملكة المتحدة تدرك أهمية مثل هذه الأشكال من التعاون -التي تشكّل ضرورة أساسية لضمان الأمن في كل من المملكة المتحدة والاتحاد الأوربي. ورغم أن تيريزا ماي تبدو الآن وكأنها تحمل رؤية أكثر واقعية للمخاطر الأمنية التي يفرضها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فما يزال آخرون في حزبها مصرّين على تعنّتهم.
على سبيل المثال، اقترح مؤخرا أوين باترسون، وهو وزير سابق في حكومة المحافظين، إلغاء اتفاق الجمعة العظيمة، الذي حقّق عقدين من السلام لأيرلندا الشمالية -وهو بيان شديد التهوّر؛ نظرا للحساسيات السياسية التي أثارها في أيرلندا التصويت لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي. كما أن آخرين من أنصار الخروج البريطاني، مثل وزير البيئة مايكل جوف، من المتشككين في اتفاق الجمعة العظيمة. ويشير هذا إلى أن الأمن، من منظور الأيديولوجيين المناصرين للخروج البريطاني، لا بد أن يكون تاليا في الأهمية لأحلامهم القومية.
ربما يكون الهجوم الأخير على العميل الروسي في بلدة إنجليزية هادئة كافيا لإزالة الغمامة الأيديولوجية عن أعين المزيد من أنصار الخروج البريطاني، فيظهر لهم أن «بريطانيا وحدها» تصبح «بريطانيا معرّضة للمخاطر». ولكن من المحتمل أيضا أن يكون الأوان فات عندما يتمكّن مواطنو وقادة المملكة المتحدة من رؤية الخروج البريطاني من منظور حلفائهم بوصفه تصرُّفا أنانيا ومدمِّرا وينطوي على خيانة.

عضو لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الأوروبي.