التكنولوجيا وضررها على الإنتاجية!

مقالات رأي و تحليلات الخميس ٢٢/مارس/٢٠١٨ ٠٣:٤٨ ص
التكنولوجيا وضررها على الإنتاجية!

جيفري فرانكل

في السنوات الأخيرة، كان نمو الإنتاجية في الاقتصادات المتقدّمة راكدا. وتدور التفسيرات الأكثر بروزا لهذا الاتجاه حول التكنولوجيا. من المفترض أن يساعد التقدم التكنولوجي في زيادة إنتاجية الاقتصادات والنمو المحتمل. ما الأمر إذن؟

كان مارتن فيلدشتاين من جامعة هارفارد مقنعا عندما زعم أن نمو الإنتاجية أعلى مما ندرك في حقيقة الأمر؛ لأن الإحصائيات الحكومية تقلل بشكل كبير من قيمة التحسينات التي تطرأ على جودة السلع والخدمات القائمة ولا تحاول حتى «قياس المساهمة الكاملة»، للسلع والخدمات الجديدة. وهو يؤكد أن أخطاء القياس هذه ربما أصبحت أكثر أهمية.

كان روبرت جوردون من جامعة نورث ويسترن أقل تفاؤلا. فقد زعم -بشكل مقنع أيضا- أن إبداعات اليوم في مجالات مثل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات من غير الممكن أن تحقق مكاسب اقتصادية كبيرة بقدر المكاسب التي خلّفتها إبداعات الماضي، مثل الكهرباء والسيارات.
ولكن من المحتمل أن تكون مشكلة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ليست فقط أنها أقل تأثيرا من إبداعات الماضي في ما يتصل بتعزيز الإنتاجية، بل ربما تخلّف في واقع الأمر أيضا بعض الآثار الجانبية السلبية التي تقوّض الإنتاجية ونمو الناتج المحلي الإجمالي. ولا يحتاج المرء إلى أن يكون من كارهي الآلات في العصر الحديث على غرار جماعة العمّال التي عارضت الثورة الصناعية وحطّمت الآلات في إنجلترا في القرن التاسع عشر لكي يقر بالمخاطر المحتملة التي تهدّد الإنتاجية بفِعل الإبداع التكنولوجي.
قد يبدو الأمر الأول واضحا: فلا يحتاج تعطيل الأنظمة القائمة بفعل التكنولوجيات الحديثة إلى تأكيد. إذ يتطلب الأمر أن يتعلّم الناس مهارات جديدة وأن يتكيّفوا مع أنظمة جديدة، وأن يغيّروا سلوكياتهم. فرغم أن النسخة المتكرّرة الجديدة من برنامج أو جهاز كمبيوتر جديد ربما تقدّم سعة تخزينية أكبر، أو المزيد من الكفاءة أو تحسين الأداء، فإن هذه المزايا يعوّض عنها ولو جزئيا على الأقل الوقت الذي يضطر المستخدمون إلى إنفاقه في تعلّم استخدامها. وكثيرا ما تتسبّب مواطن الخلل البسيطة في إفساد العملية الانتقالية.
كما تُثير الطبيعة سريعة التغيّر للتكنولوجيات الرقمية اليوم تحديات أمنية. فالبريد المزعج، والفيروسات، والهجمات السيبرانية، وغير ذلك من أشكال الاختراقات الأمنية، من الممكن أن تفرض تكاليف كبيرة على الشركات والأسر.
ثم هناك التأثير الذي تخلّفه سبل التواصل الحديثة على حياتنا اليومية، بما في ذلك قدرتنا على العمل والتعلّم. فمن الممكن أن تعمل رسائل البريد الإلكتروني غير المرتبطة بالعمل، ووسائط التواصل الاجتماعي، ومقاطع الفيديو على الإنترنت، وألعاب الفيديو، على تشتيت انتباه الموظفين، فتعوّض بالتالي عن بعض إمكانات رفع الإنتاجية التي تنطوي عليها على الأقل. وربما تصبح هذه العيوب أكثر وضوحا عندما يعمل الموظفون عن بُعد.
على نحو مماثل، عمل الهاتف الذكي على تشكيل عقول الشباب، الذين لا يتذكرون إلا بالكاد كيف كان الأمر قبل أن تصبح الأنشطة الإدمانية -من ألعاب الفيديو إلى وسائط التواصل الاجتماعي- في متناول أيديهم على نحو مستمر. ووفقا لدراسة حديثة، تفسّر أنشطة الكمبيوتر الترفيهية جزئيا انحدار المعروض من العمّال بين الذكور الذي تتراوح أعمارهم بين 21 إلى 30 عاما. وعلاوة على ذلك، تُظهر الأبحاث أن أجهزة الكمبيوتر المحمولة في الفصول المدرسية تعمل على إبطاء تعلّم الطلاب، حتى عندما تستخدم لتدوين الملاحظات وليس تصفح شبكة الإنترنت.
كما تعمل الهواتف الذكية على تقويض السلامة البدنية في بعض السياقات. ففي الولايات المتحدة، تشير تقارير الإدارة الوطنية لسلامة المرور على الطرق السريعة إلى مقتل 3477 شخصا وإصابة 391 ألف شخص في حوادث سيارات انطوت على سائقين مشتتي الانتباه في العام 2015، وكان تدوين الرسائل النصية أثناء القيادة الجاني الأكبر، وخاصة بين الشباب.
وحتى الآن، كان مصير العملات الرقمية مثل البيتكوين الفشل في الارتقاء إلى مستوى الضجة المحيطة بها. فلم تكن أكثر فعالية من العملات التقليدية على الإطلاق كوسيلة للدفع أو تخزين القيمة، بل يبدو أن العملات الرقمية المشفّرة تشجّع تحويل الموارد بعيدا عن الاستخدامات الإنتاجية. وهي أيضا تضر بالبيئة، بسبب عملية «التعدين» كثيفة الاستهلاك للطاقة، في حين يعمل إخفاء اسم المالك بالكامل على تقويض إنفاذ القانون.
إلى جانب التأثيرات السلبية المباشرة وغير المباشرة التي تخلّفها التكنولوجيات الجديدة على الإنتاجية، هناك خطر يتمثّل في احتمال تسببها في تقويض نوعية حياة البشر. والواقع أن قِلة من الناس يكنون مشاعر إيجابية، على سبيل المثال، للمكالمات الهاتفية التلقائية التي أصبحت تبتلي حياة العديد منّا.
ثم هناك مشكلة «الأخبار الكاذبة» الحاضرة دوما. ذات يوم بُشِّرنا بقدوم «الوسائط الجديدة» الرقمية على أنها اتجاه للديمقراطية من شأنه أن يُعطي الناس العاديين قدرا من السيطرة على «موجات الأثير»، على حساب الشركات الكبرى أو المؤسسات الراسخة. ولكن بات من الواضح مؤخرا أن «إضفاء الديمقراطية» على المعلومات قد لا يكون في واقع الأمر مفيدا للديمقراطية. فالأخبار الكاذبة، على سبيل المثال، تبيّن أنها تنتشر بسرعة أكبر من الأخبار الحقيقية على موقع تويتر. وهذا لم يجعل المواطنين أقل اطلاعا في العديد من الحالات فحسب، بل ومكّن شخصيات عامة أيضا -وأبرزها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب- من اعتبار الحقائق «زائفة».
هذه ليست سوى الجوانب السلبية لتكنولوجيا المعلومات. ومن إبداعات التكنولوجيا الأخرى التي تنطوي على عيوب واضحة كبرى مسكنات الألم الأفيونية والأسلحة المتقدّمة على نحو متزايد.
لكي أكون واضحا، أنا لا أقترح أن التأثيرات الصافية المترتبة على التطوّرات التكنولوجية الحديثة سلبية. بل على العكس من ذلك، حققت إبداعات تكنولوجية كثيرة فوائد هائلة، وستظل هذه هي حالها في الأرجح.
ربما تنطوي التكنولوجيات الجديدة على إمكانات كفيلة بزيادة الإنتاجية ولم تُستغل بعد. يزعم مؤرخون مثل بول ديفيد وعدد من خبراء التكنولوجيا مثل إيريك برينجولفسون، ودانيال روك، وتشاد سيفرسون، أن الاختراقات الكبرى (مثل المحرّك البخاري، أو الكهرباء، أو السيارة) كانت دوما تستغرق وقتا طويلا قبل أن تحقّق مكاسب اقتصادية صافية؛ لأنها تستلزم إعادة صياغة الشركات، والمباني، ومرافق البنية الأساسية. ومن المفترض أن يحدث نفس الشيء مع التكنولوجيات الحديثة.
لكن هذا ليس سببا لتجاهل العواقب السلبية المترتبة على الإبداعات الجديدة. وكما حذّرت مجموعة خبراء التكنولوجيا في وادي السليكون فإن «التكنولوجيا تسلبنا عقولنا ومجتمعاتنا». ويتعيّن علينا أن نستعيد السيطرة، وأن نضمن أننا لن نكتفي بجعل عالمنا «أكثر ذكاءً»، بل نتأكد أيضا من قدرتنا على استخدام التكنولوجيا بذكاء.

أستاذ تكوين رأس المال والنمو في جامعة هارفارد.