كريس باتِن
ربما يكون بوسعي أن أراهن على أنني كنت رئيساً لعدد من الجامعات أكثر مما تولى رئاسته أي شخص آخر على قيد الحياة. ويرجع هذا جزئياً إلى أنني عندما كنت حاكماً لهونج كونج، جُعِلت رئيساً لكل جامعة في المدينة. وقد احتججت بأنه من الأفضل بكل تأكيد أن تتولى الجامعات اختيار رؤسائها بأنفسها. ولكن الجامعات لم تكن لتسمح لي بالاستقالة بطريقة لَبِقة. وعلى هذا فقد استمتعت بخبرة منح عشرات الآلاف من الطلاب شهاداتهم والتعرف على المعاني التي يحملها طقس العبور هذا بالنسبة لهم وأسرهم.
وعندما عدت إلى بريطانيا في عام 1997، طُلِب مني أن أتولى رئاسة جامعة نيوكاسل. ثم في عام 2003، انتخبت رئيساً لخريجي جامعة أكسفورد، وهي واحدة من أكبر مؤسسات التعلم في العالم. وليس من المستغرب إذن أن يكون لي وجهات نظر قوية حول المغزى من إنشاء الجامعات، أو التعليم أو البحث أو الدراسة في إحداها.
ينبغي للجامعات أن تكون معاقِل للحرية في أي مجتمع. ولابد أن تكون متحررة من أي تدخل من قِبَل الحكومات في أغراضها الأساسية المتمثلة في البحث والتدريس؛ وينبغي لها أن تتحكم في إدارتها الأكاديمية. ولا أظن أن أي جامعة من الممكن أن تصبح أو تظل مؤسسة عالمية المستوى إذا لم تتوفر لها هذه الظروف.
إن دور أي جامعة يتلخص في تشجيع الصِدام بين الأفكار، واختبار نتائج البحث مع باحثين آخرين، ونقل المعرفة الجديدة للطلاب. وبالتالي، تمثل حرية التعبير عنصراً أساسياً في كينونة الجامعات، وتمكنها من تعزيز حِس الإنسانية المشتركة وإعلاء مبادئ التسامح المتبادل والتفاهم التي يقوم عليها أي مجتمع حر. وهذا بطبيعة الحال يجعل من الجامعات خطراً يهدد الحكومات الاستبدادية التي تسعى إلى خنق القدرة على طرح الأسئلة الصعبة ومحاولة الإجابة عليها.
ولكن إذا كان أي حرمان من الحرية الأكاديمية هو بمثابة ضربة موجهة ضد المغزى من الجامعة، فإن المفارقة التي نعيشها اليوم تتلخص في أن بعض الهجمات الأكثر إثارة للانزعاج على هذه القيم كانت آتية من داخل الجامعات ذاتها.
ففي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، يسعى بعض الطلاب والمعلمين الآن إلى تقييد الجدال والمناقشة. وهم يؤكدون أن الناس لا ينبغي لهم أن يتعرضوا للأفكار التي يختلفون معها بقوة. وهم يزعمون فضلاً عن ذلك أن التاريخ لابد أن تُعاد كتابته لمحو أسماء (وإن لم يكن أوقاف) أولئك الذين يفشلون في اجتياز اختبارات القوامة السياسية اليوم. وقد استُهدِف توماس جيفرسون وسيسيل رودس بين آخرين. وكيف كنا لنحكم على أداء زعماء مثل تشرشل وواشنطن إذا أُخضِعوا لنفس الاختبارات؟
والآن، يُحرَم بعض الناس من الفرصة للتحدث أيضا ــ أو ما يسمى "مبدأ اللا منصة" باللغة الشنيعة المستخدمة في بعض الجامعات التي من الواضح أنها ليست عظيمة الثقافة. وهناك من يدعو إلى "الحيز الآمن" حيث يمكن توفير الحماية للطلاب من أي شيء يعتدي على إحساسهم بما هو أخلاقي ولائق. ومن الواضح أن هذا يعكس ويغذي حتماً سياسة التمثل بالضحية ــ بتعريف هوية المرء (وبالتالي مصالحه) بما يتعارض مع آخرين.
عندما كنت طالباً قبل خمسين عاما، كان أستاذي الرئيسي مؤرخاً ماركسياً رائداً وعضواً سابقاً في الحزب الشيوعي. وكانت الأجهزة الأمنية البريطانية شديدة التشكك فيه. كان مؤرخاً ومعلماً عظيما، ولكن في أيامنا هذه ربما أجد من يشجعني على التفكير فيه باعتباره "تهديداً لحيزي الآمن". والواقع أنه جعلني أفضل اطلاعاً إلى حد كبير وأكثر انفتاحاً على مناقشة الأفكار التي تتحدى أفكاري، وأكثر قدرة على التمييز بين الجدال والمشاجرة، وأكثر استعداداً للتفكير لنفسي.
لا شك أن بعض الأفكار ــ التحريض على الكراهية العنصرية، أو العداء بين الجنسين، أو العنف السياسي ــ تُعَد لعنة في أي مجتمع حُر. ولكي توجد الحرية فإن الأمر يستلزم فرض بعض القيود (التي يتم تحديدها بحرية من خلال المناقشة الديمقراطية في ظل سيادة القانون).
وينبغي للجامعات أن تكون مؤتمنة على ممارسة هذه الدرجة من السيطرة على أنفسها. ولكن لا ينبغي لنا أبداً أن نتسامح مع التعصب في المناظرة والمناقشة وفي فروع بعينها من العِلم والمعرفة. وكما علمنا الفيلسوف السياسي العظيم كارل بوبر، فإن الشيء الوحيد الذي لا ينبغي لنا أن نتسامح معه هو التعصب. ويصدق هذا بشكل خاص على الجامعات.
بيد أن بعض الأكاديميين والطلاب الأميركيين والبريطانيين يعملون هم أنفسهم على تقويض الحرية؛ ومن عجيب المفارقة أنهم يتمتعون بالحرية للقيام بذلك. وفي الوقت نفسه، تواجه الجامعات في الصين وهونج كونج تهديدات لاستقلاليتها وحريتها، ليس من الداخل، بل من قِبَل حكومة استبدادية.
ففي هونج كونج، تخضع للتهديد استقلالية الجامعات وحرية التعبير ذاتها، والتي يكفلها القانون الأساسي للمدينة والمعاهدة التي تمتد خمسين عاماً بين بريطانيا والصين بشأن وضع المدينة. ويبدو أن الأساس المنطقي يتمثل في ضرورة إخضاع الجامعات التي يدرس فيها الطلاب الذين أيدوا بقوة الاحتجاجات المؤيدة للديمقراطية في عام 2014. وبالتالي فإن حكومة المدينة تتخبط، وتثير المتاعب، بفعل الأوامر التي تتلقاها من الحكومة في بكين.
الواقع أن السلطات الصينية أظهرت مؤخراً فقط ما تظنه في الالتزامات الناشئة عن المعاهدة و"العصر الذهبي" للعلاقات الصينية البريطانية (التي لا يمل الوزراء في بريطانيا من الإعلان عنها)، باختطاف مواطن بريطاني (وأربعة آخرين من سكان هونج كونج) من شوارع المدينة. وكان خمستهم ينشرون بعض الكتب التي فضحت أسراراً قذرة يخفيها قادة الصين.
وعلى البر الرئيسي، شَنّ الحزب الشيوعي الصيني أكبر حملة ضد الجامعات منذ ما جرى في أعقاب القتل في ميدان السلام السماوي عام 1989. فلا ينبغي مناقشة ما يسمى القيم الغربية في الجامعات الصينية. والفِكر الوحيد الذي يمكن تعليمه هو الفِكر الماركسي. ألا يعلم الرئيس شي جين بينج وزملاؤه في المكتب السياسي أي شيء عن خلفية كارل ماركس؟ المشكلة في أيامنا هذه هي على وجه التحديد أنهم يعرفون القليل عن ماركس ولكن الكثير عن لينين.
يتعين على الغربيين أن يهتموا بشكل أكبر بما يحدث في الجامعات الصينية وبما ينبئنا هذا عن القيم الحقيقية التي تقوم عليها المعرفة والتعليم والحياة الأكاديمية. وينبغي لنا أن نقارن ونمايز كما نطلب من طلابنا أن يفعلوا.
هل نريد للجامعات أن تكون حيثما تقرر الحكومات ما يُعَد في زعمها مكانا آمناً لكي نتعلم ونناقش؟ أو نريد جامعات تنظر إلى فكرة "الحيز الآمن" ــ إنهاء المناقشة في حال ما إذا كانت تسيء لشخص ما ــ باعتبارها لفظة متناقضة في وسَط أكاديمي؟ ينبغي للطلاب الغربيين أن يفكروا من حين لآخر في نظرائهم في هونج كونج والصين والذين يتعين عليهم أن يناضلوا من أجل الحريات التي يعتبرونها من الأمور المسلم بها ــ والتي كثيراً ما تنتهك.
آخر حاكم بريطاني لهونج كونج، ومفوض الاتحاد الأوروبي الأسبق للشؤون الخارجية.
وهو يشغل حالياً رئيس جامعة أكسفورد.