الثقافة العربية في العصر الرقمي

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ٠٧/مارس/٢٠١٦ ٠٠:٠٣ ص
الثقافة العربية في العصر الرقمي

أ.د. حسني محمد نصر

ضمن الفعاليات الثقافية لمعرض مسقط الدولي للكتاب كان لي شرف اللقاء برواد المعرض في محاضرة نظمها المنتدى الأدبي الأسبوع الفائت حول مستقبل الثقافة العربية في العصر الرقمي. وبقدر ما كان الموضوع مغريا بالحديث، بقدر ما كان شائكا خاصة في ظل الضبابية التي تحيط بفهمنا للأبعاد الثلاثة التي يحملها هذا العنوان، وهي المستقبل، والثقافة العربية، والعصر الرقمي. فالمستقبل الذي تنشئ له الدول مراكز البحوث وتنفق على استشرافه كل ما تيسر لها من أموال وطاقات بشرية، ما زال يمثل لدينا مجهولا لا يجب الاقتراب منه أو التعاطي معه بدعوى أن لدينا مشكلات حالية كثيرة يجب أن نتفرغ لبحثها، أو بزعم أننا لا نجيد قراءة المستقبل الذي يحصره البعض في التنجيم وقراءة الطالع. أما الثقافة العربية فإنها تعيش واحدة من أصعب فترات تاريخها تشهد فيه انحدارا كبيرا وتواجه اتهامات عديدة بالنرجسية والعنصرية والهوس بنظرية المؤامرة والصمم وعمي الألوان. أما البعد الثالث المتصل بالعصر الرقمي فإننا لا زلنا نراوح إمكاننا على تخومه كمستهلكين لثمار الثروة الرقمية دون أن يكون لنا منتج ومردود فكري وثقافي وحضاري ذا اعتبار فيه.

في ضوء هذه الأبعاد الثلاثة المتداخلة يصبح من المهم الدعوة إلى قراءة مستقبل الثقافة العربية في عصر الثورة الرقمية الأولي التي لا تمثل سوى قمة جبل الجليد، ومقدمة لما قد نشهده من تطوّرات قد تقلب العالم كله رأسا علي عقب عندما تنطلق الثورة الرقمية الثانية، التي يبشر بها الجميع، وأصبحت بالفعل إحدى نبوءات المستقبل القريب.

علينا أن نعترف انه بفضل القوة الهائلة للتكنولوجيا الرقمية، أزيلت الحدود والحواجز التي كانت تفصل بين البشر، ولم يعد اختلاف الثقافات واللغات يشكل عائقا أمام التواصل الحضاري بين الأمم والشعوب. وقد حررت هذه الثورة التي لم تشهد البشرية لها مثيلا من قبل القدرات الإبداعية للبشر، الذين أصبح بإمكانهم ليس فقط استهلاك كل أشكال المنتج الثقافي ولكن أيضا المشاركة في عملية الإنتاج نفسها. ويكفي أن نشير هنا إلى ارتفاع عدد المشتركين في خدمات الإنترنت منذ بداية وحتى نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين من 350 مليوناً إلى نحو 4 مليارات. ومن المتوقع بحلول عام 2025، سوف يكون كل إنسان على وجه الأرض ومن دون استثناء، قادراً على الاطلاع على كافة المعلومات المتاحة أمام العالم أجمع عن طريق أجهزة حاسوبية مقبلة يمكن احتواء أي منها بقبضة اليد، وسوف يصبح سكان الأرض والذين من المقدّر أن يصل عددهم إلى 8 مليارات متصلين جميعاً بشبكة الإنترنت. ومن مشاهد المستقبل أيضا ما أشار اليه البعض بتفوّق البشر الافتراضيين وانعكاسات ذلك على الثقافة الوطنية والعالمية. فبعد أن أصبح معظم الناس ينتمون إلى العالم الافتراضي، بالإضافة لانتمائهم إلى العالم الحقيقي فان عدد السكان الافتراضيين في العالم سوف يفوق عدد سكان الكرة الأرضية ربما خلال العقد المقبل. وسيحدث هذا عندما يصبح كل إنسان ممثلاً على الإنترنت بطرق مختلفة ومتعددة وله شخصية متميزة على كل شبكة من شبكات التواصل الاجتماعي بالإضافة إلى حساباته على مواقع الويب ومواقع البريد الإلكتروني المختلفة. ولعل الأهم من كل ذلك هو أن «البشر الافتراضيين» سيكونون المنتجين الحقيقيين للثروة المعرفية والثقافية، وهو ما يصب في النهاية في إثراء المخزون المعرفي العالمي. وإجمالا يمكن القول إن العصر الرقمي أتاح للثقافات المأزومة والمظلومة في العالم مثل ثقافتنا العربية فرصا جديدة لإعادة تقديم نفسها للعالم من ناحية وضخ دماء جديدة في شرايينها من ناحية أخرى. فمع سهولة المشاركة في إنتاج الثقافة وترسخ مفاهيم مثل المواطن المثقف والمواطن العالمي والمواطن الصحفي وغيرها، أصبح بالإمكان دخول أجيال عربية جديدة مجال إنتاج المعارف والمعلومات والأفكار أو حتى إعادة إنتاجها وخلق المضامين الثقافية وتوزيعها دون قيود بفضل تنوع طرق ومنصات عرض المنتج الثقافي، وحالة الاندماج الإعلامي التي تميز العصر الرقمي والتي تتيح توزيع المنتج الثقافي المرتبط بوسيلة واحدة من خلال وسائل أخرى عديدة.

في ظل الحقائق السابقة يمكننا أن نشير إلى سيناريوهين متفائلين يمكن التنبؤ بهما لمستقبل الثقافة العربية في العصر الرقمي. يقول السيناريو الأول إن الإنتاج الثقافي العربي سوف يزيد وان إسهام العرب في الإنتاج العلمي والفكري والأدبي قد يتضاعف في المستقبل المنظور نتيجة زيادة أعداد المثقفين من جانب، واستمرار جهود الدول والمنظمات العربية في دعم الإنتاج الثقافي، وتوفير سبل نشره وتوزيعه بحرية. ويستند السيناريو الأول على ما وفرته الدول العربية من بني تحتية رقمية جيدة خلال السنوات الفائتة، والتزايد المضطرد في أعداد المستخدمين العرب لكل منجزات العصر الرقمي، إلى جانب تطور التعليم وانخفاض نسب الأمية الهجائية والرقمية في كل الدول العربية تقريبا. وعلى هذا الأساس فان السيناريو الثاني يتوقع أن يزيد بشكل كبير نشر المنتج الثقافي والمعرفي العربي ويزيد بالتالي وصوله إلى المستخدمين من ثقافات أخري بعد أن أصبح بالإمكان ترجمة مواقع وصفحات الويب العربية إلى اللغات المختلفة، في ظل استمرار المبادرات الحكومية وغير الحكومية التي تستهدف زيادة المحتوى الرقمي العربي علي الإنترنت والذي بلغ في العام 2012 نحو ثلاثة بالمائة فقط من محتوى الإنترنت بكل اللغات وفقا لتقرير الاتحاد الدولي للاتصالات.

يبقي أن نشير إلى أن السيناريوهات المتفائلة بمستقبل الثقافة العربية في العصر الرقمي قد تصطدم ببدائل تعيق عمل القوى الداعمة لها، مثل زيادة حساسية الأنظمة والحكومات العربية تجاه ما ينشر على المنصات الرقمية من معارف وأفكار وأراء تري أنها تتعارض مع قيم ومبادئ الثقافة العربية أو تهدد الأمن القومي، وبالتالي التوجه إلى فرض مزيد من القيود القانونية والاقتصادية على استخدام المنصات الرقمية وهو ما سوف يؤثر بالسلب على حركة الإنتاج الثقافي العربي ويحد من إسهام المستخدمين العرب القادرين على المشاركة في إنتاج أو إعادة إنتاج الثقافة بدافع الخوف من المساءلة، ويبقي بالتالي، المحتوى الثقافي العربي علي المنصات الرقمية محدودا ومكررا ومترجما بالأساس.

خلاصة القول إن الإمكانيات الكبيرة التي يتيحها العصر الرقمي على صعيدي إنتاج وتوزيع الثقافة المنتج الثقافي بكل مكوناته، قد تكون الحل المناسب وربما الملاذ الأخير لإعادة بعث ثقافتنا العربية وإعادة تقديم جوهرها المتميز ووجهها الإنساني إلى العالم.

أكاديمي بجامعة السلطان قابوس